محمود الجيّاشي
تحتم عليّ الضرورة المنهجية أن أشير في مستهل هذا المقال إلى إني لست بصدد بحث مشكلة ڤيروس كورونا من الناحية الطبية والعلمية .. فإن هذه الحيثية موكولة جملة وتفصيلاً لأهل الاختصاص في هذا المجال .. والقرار الطبي والعلمي بهذا الخصوص سواء في التشخيص أم العلاج منجّز علينا جميعاً .. لكني أحاول أن أتناول هذا الموضوع من زاوية أخرى بما ينسجم مع حيثية المعرفة الدينية .
علماً إن اختيار العنوان المذكور لايعود الى حيثيات علمية مجردة يفرضها منهج البحث العلمي الجادّ فقط .. وإنما جاء أيضاً نتيجة ارتباط عميق ومثير بحياتي الايمانية الخاصة .. وتديّني الشخصي .
منذ سنين طويلة استوقفتني حالات خاصة ومشاهد مذهلة في قصص القرآن لم أكن أجد لها فهماً متكاملاً أو إطاراً خاصاً يحدد تفاصيل وغايات المشهد الذي يرسمه الوحي الالهي في سرد القصص القرآني الذي جاء بصياغات مختلفة وأساليب متعددة حتى في القصة الواحدة ...
الشئ الذي لفت انتباهي دائماً .. وأثار دهشتي هو غرابة النتائج المترتبة على تفاصيل وأحداث القصص الالهي .. فكثيراً ما أجد أن المقدمات التي ابتدأت بها القصة لاتشبه - لامن قريب ولامن بعيد - النتائج النهائية المترتبة عليها !
بعبارة فنية هناك صعوبة بالغة في التكهّن بأحداث ( السيناريو ) الالهي وتعقيد مذهل في ( حبكة ) الدراما الالهية وصولاً الى مشاهدها الاخيرة .. وبعد عدة تجارب شخصية في حياتي وجدت أن هناك نوعين من الحسابات يتنافسان في صياغة المشاهد التي تكوّن بترتيبها حياة الانسان والمجتمع عموماً .
الاول : هو الحسابات الالهية أو ماأطلقت عليه لاحقاً ( خطة الله ).
الثاني : هو حسابات الانسان وطرز تفكيره الذي يحاول من خلاله أن يدير مسيرة حياته . وأطلقت عليه ( خطة الانسان ).
وكنتيجة استباقية للبحث وجدت أن خطة الله هي الحاكمة والمسيطرة على جميع حوادث الكون سواء كانت اختيارية كأفعال الانسان أم قهرية كالاحراق بالنسبة الى النار .. وحسب تعبير القرآن أن ( الغلبة ) دائماً في صالح الخطة الالهية .. بالرغم من أن الانسان يفكر ويخطط وله حساباته الخاصة التي لاتخرج عن إرادته واختياره لكن نتيجة خطة الانسان سوف تصب في صالح الخطة الالهية حتى لو كانت خطة الانسان حمقاء وفاشلة .. ومما يثير الحيرة والدهشة أن خطط الانسان الفاشلة سوف يبوء الانسان وحده بنتيجتها السيئة بالرغم من أنها تخدم سلطان الخطة الالهية ! كل ذلك يحدث مع حفظ أختيار الانسان وحرية ارادته !
بالطبع ادرك تماماً أن ثنائية خطة الله وخطة الانسان بدرجة من التعقيد والصعوبة المعرفية التي تحتاج الى مثال مباشر وعملي وواقعي أو تجربة شخصية في ميدان الحياة لكي تتضح بعض معالمها ونستطيع الى حدّ ما الامساك ببعض خيوطها !
لنأخذ لذلك بعض الامثلة القرآنية التي تقرّب لنا صورة الغلبة الالهية وخطة الله التي تسوق جميع حوادث الكون الى صالح سلطان الحكمة الالهية .. ولعل المثال الابرز لذلك هو ماقصّه القرآن في سورة يوسف ( ع ) التي تعتبر من أكثر القصص القرآني تعقيداً في الدراما وتداخل المشاهد والمواقف والاحداث. ولنأخذ المشاهد الرئيسية فيها كما يعرضها القرآن .
1. إن أخوة يوسف كادوا له وخططوا لتصفيته وقتله (( أقتلوا يوسف أو أطرحوه أرضاً )) ثم قال أحدهم : أننا نرميه في غيابة الجبّ تلتقطه بعض السيارة ! وبدءوا بتنفيذ هذه الخطة فعلاً وتمّ رمي أخيهم النبي ابن الانبياء في غيابة الجبّ !!
إن هذا الفعل كان في نظر أخوة يوسف مؤدياً الى هلاكه أو إبعاده والتخلص منه حسب ( خطة الانسان ) ! لكنه حسب ( خطة الله ) وحسابات الحكمة الالهية ليس إلا خطوة نحو الكمال والنجاة ليوسف .. أي عكس مايريدون !!
2. جاءت سيّارة فأرسلوا واردهم وقال لهم : يابشرى هذا غلام ! فأخذته القافلة وشروه بثمن بخس دراهم معدودة !! وحسب ( خطة الانسان ) فإن يوسف أصبح رقّاً مملوكاً ضعيفاً .. وحسب ( خطة الله ) ليس ذلك إلاّ خطوة ثانية نحو الكمال والنصر !!
3. إنه بسبب ذلك وصل الى بيت العزيز ثم واجهه ابتلاء جديد من أمرأة العزيز التي راودته عن نفسه .. فكادت له وخططت للايقاع به .. ونجى يوسف من هذا الامتحان العظيم !
4. إن زليخا كادت له مكيدة أخرى أوصلته الى السجن .. وظنت بحساباتها ( خطة الانسان ) أنها ستقضي عليه وتتخلص منه .. لكن حسب ( خطة الله ) هذه خطوة جديدة نحو الكمال والنجاة والنصر ! لأنه سيلتقي بشخصين يقصّان عليه رؤيتهما التي ستكون سبباً لوصوله الى فرعون مصر الذي رأى بدوره رؤيا عجز المؤولون عن تفسيرها .. فأوصله السجن الى ديوان الملك والعزة !!!
إن جميع هذه الاحداث والمكائد كانت بنظر اصحابها وبحسابات ( خطة الانسان ) تؤدي الى هلاك يوسف والتخلص منه ! لكنها في ( خطة الله ) وحسابات المعادلة الالهية كانت أسباباً لوصول يوسف الى عرش الملك وديوان السلطة العليا !المدهش أن نفس الاسباب والافعال التي صدرت من أعداء يوسف لغرض إهلاكه والقضاء عليه .. نفس هذه الاسباب جعلها الله سبحانه سبباً لرفعته وعزّته ونجاته ! والذين قاموا بها باؤوا بأثمها بالرغم من أنها تصب في صالح الحكمة الالهية والارادة الربانية .
ولو قارنّا بين بداية القصة وبين نهايتها لرأينا شيئاً عجيباً لايمكن أن ندركه بحساباتنا القاصرة .. وهو أن صبيّاً رماه أخوته في البئر .. وأخذته السيارة لتبيعه رقّاً .. كيف يكون في نهاية المطاف ملكاً على العرش ؟!! إن المقدمات التي حصلت له لاتشبه بأي حال النتيجة التي وصلها .. وهذا ماأعبر عنه بالخطة الالهية .. أو الغلبة الالهية على حوادث الكون . .. ومن هنا ورد في بداية سورة يوسف قوله تعالى (( والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لايعلمون )).
لننتقل الى مثال قرآني آخر يجسّد مضامين ( خطة الله ) وهو من القصص القرآنية المشهورة .. إنها قصة النبي موسى ( ع ) مع العبد الصالح الذي آتاه الله رحمة وعلّمه من لدنه علماً .. المذكورة في سورة الكهف .. يتكون السيناريو العام لهذه القصة من ثلاثة مشاهد للخطة الالهية التي تجسّد بظاهرها مضموناً منافياً لخطة الانسان ومستوى تفكيره ! ولولا أن القرآن قد كشف السيناريو الحقيقي لهذه القصة لبقيت لغزاً معقداً ومحيراً لمجموعة من المواقف والاعمال الغريبة التي يقوم بها إنسان أمام إنسان آخر !
ف ( خرْق سفينة المساكين ) في وسط البحر كان عملاً خطيراً مهلكاً في ظاهره حسب خطة الانسان ومستوى تفكيره .. لكنه حسب خطة الله كان قمة النجاة والنجاح !!
و ( قتل الغلام ) كان جريمة لاتغتفر حسب خطة الانسان ومستوى تفكيره .. لكنه كان قمة الرحمة حسب خطة الله !
و ( إقامة الجدار ) بدون أخذ أجر عليه مع الحاجة الملحة للمال كان عملاً عبثياً حسب خطة الانسان .. لكنه حسب خطة الله كان قمة الوفاء للأب الصالح لليتيمين وحفظ كنزهما !!
ومن المثير أن خطة الله تحيطها سرّية تامة بالرغم من أنها تنفذ بأدوات بشرية ولايمكن كشفها في وقت التنفيذ .. الى درجة أن المنفّذ لها يقول لموسى ؛ إنك لن تستطيع معي صبراً !!! ومع ذلك سأله موسى ثلاثة أسئلة ليقرر بعد ذلك : أن هذا فراق بيني وبينك !! لانك لاتصبر أو تتحمل خطة الله !
المثال القرآني الثالث لخطة الله هو أيضاً ماجاء في قصة ولادة النبي موسى ونجاته من فرعون .. فبعد أن قرر فرعون قتل جميع المواليد الجدد لكي يتخلص من النبي الذي سوف يسلبه ملكه وجبروته .. اقتضت الخطة الالهية أن تبقي موسى حيّاً حتى يبعث نبيّاً من خلال سيناريو إلهي مذهل .. لقد كان من المفترض أن يكون قرار فرعون بقتل المواليد الجدد شاملاً لموسى وسبباً لقتله والتخلص منه حسب ( خطة الانسان ) ! لكن هذا القرار أدّى إلى أن يوحي الله سبحانه الى أم موسى أن ضعيه في تابوت واقذفيه في اليم !! تصورا ماهي النتيجة المفترضة لالقاء رضيع في اليمّ حسب الاسباب الظاهرية ؟!! فليلقه اليمّ بالساحل !! ويأخذه عدوّ لي وعدوّ له !!!!
ياإلهي !!! سيعيش موسى في بيت فرعون الذي يبحث عنه ليقتله !! تأملوا كيف تسير خطة الله بنفس أدوات خطة الانسان لكنها تعاكسها في النتائج !! سيناريو بقاء موسى حيّاً في بيت فرعون نفسه أسميها ( سخرية إلهية مذهلة وهائلة ) بخطط الانسان !
الى هنا اعتقد أننا لابد أن ندرك جميعاً أن هناك خطة إلهية تسير جنباً إلى جنب مع خطة الانسان في جميع شؤون حياتنا .. وأننا محكومون شئنا أم أبينا لنتائج خطة الله .. وحيث أن الله هو مصدر الخير والكمال المطلق فلا نتوقع من خططه إلا الخير المطلق وإن بدت بعض محتوياتها غير مدركة أو تتنافى مع حساباتنا ظاهراً ...
ومن الضروري أن نشير هنا الى أن خطة الله وحتمية جريانها لاتعني بأية حال سقوط مسؤولية الانسان تجاه واجباته الشخصية والاجتماعية والشرعية والانسانية.
في ضوء جميع ماتقدم فإن ظهور ڤيروس كورونا سواء كان بفعل البشر أو بسبب أفعالهم أو بسبب آخر فإنه لايخرج عن أن يكون جزءاً من خطة الله التي لاتنتج للانسان إلاّ الخير والنجاة .. وليس علينا إلا أن نثق ونطمئن بخطة الله ونتائجها .. فإن الذي حفظ سفينة المساكين وكنز اليتيمين لايعجزه أن يحفظنا نحن المساكين الأيتام أمام هذه الطبيعة اللامتناهية .. وسوف تنكشف بعد حين قصة ( كورونا ) لكنها تحتاج الى صبر ! وصبر فقط.
وليس علينا إلا أن نكون بذواتنا وأفعالنا عناصر إيجابية في تنفيذ هذه الخطة وإن كانت مجهولة لنا بالفعل.
(( وَ لِلَّـهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ كانَ اللَّـهُ عَزِيزاً حَكِيماً ))
الفتح : 7.