Articles by "الاسلام والحياة"



حيدر حب الله ([1])



الأقليّات بمثابة تحدّيات للسلام العالمي والمحلّي
تعتبر مسألة الأقليّات الدينيّة ـ ومعها الأقليّات العرقيّة والقوميّة واللغويّة و..([2]) ـ من القضايا البارزة لحقوق الإنسان في العصر الحديث، والسبب في ذلك يرجع لتاريخ طويل من التنكيل بالأقليّات وسلبها الكثير من حقوقها، بل من أبسط حقوقها في العيش، وقد أدّى هذا الظلم المتوارث على الأقليّات في مختلف البلدان والجغرافيات إلى حركة حقوقيّة عالميّة، انبثقت من التفكير الإنساني، بهدف حماية هذه الأقليّات ومنحها الطمأنينة في الوجود والكيان.

لقد انتبه الإنسان بعد زمن طويل إلى أنّ ثنائية الأقليّة والأكثريّة هي في حدّ ذاتها من الثنائيّات التي تستدعي وقوع الحيف والظلم؛ لأنّ عنصر فائض القوّة الكامن في الأكثريّة يطغى بها نحو العدوان على الآخرين من موقع الضعف الكامن فيهم، بل إنّ بعض الأكثريّات كانت تنطلق في قمع الأقليّات من قناعات بالتفوّق العرقي أو الديني أو بأنّ الآخر يمثل شرّاً مطلقاً.

إنّ الثنائية هذه فرضت نهجاً من المواجهة بين الأقليّات والأكثريّة، وظلّ منطق المواجهة والتوجّس قائماً من الأقليّات في المجتمعات التي تحكمها الأكثريّة، لكنّ العصر الحديث بدأ يدعو لمنطق المعاملة، أي للانتقال من فقه المواجهة إلى فقه المعاملة.

لكنّ الأكثريّة لم تنطلق دوماً من منطق العدوان في التعامل مع الأقليّات، بل كثيراً ما كان السبب شعوراً بالخوف من تلك الأقليّة المنتمية الى أكثريّةٍ ما في مكانٍ آخر، بل كثيراً ما هدّدت الأقليّاتُ الدولةَ المركزيّة عبر التفكير بالانفصال بما يوجب تفتّت الدولة وانهيار المجتمع الكبير، وبهذه الطريقة ونظراً لهيمنة التفكير الأيديولوجي والديني، بات الإحساس بأنّ الأقليّة هي خنجرٌ في الخاصرة الرخوة لمجتمع الأكثريّة.. بات هذا الإحساس أكثر وضوحاً، ومن ثمّ فرض ذلك سعياً من الأكثريّة لحماية نفسها من الأقليّات عبر وقف تمدّدها تارةً أو الاهتمام الأمني بوجودها أخرى وعبر وقف تأثيرها على هوية الأكثريّة من جهة ثالثة، وبهذا ظهر منطق الأمن الاجتماعي والثقافي والديني؛ لأنّ الأكثرية فهمت الأقليّات على أنها تهديدٌ لهذه الأشكال الأمنيّة الثلاثة، وصارت القصّة أكثر تعقيداً.

بل أكثر من ذلك، كان وجود الأقليّات في بعض البلدان سبباً في فتح بلدان أخرى ـ تمثل هذه الأقليات أكثريّةً فيها ـ حرباً بهدف حماية هذه الأقلّيات أو ضمّها إلى مجتمعها الأم، وعلى هذا الأساس كانت إحدى المبرّرات المعلنة للحرب العالمية الثانية، وهي محاولة الألمان الدفاع عن حقوق الأقليات الألمانية وضمّها للوطن الأمّ، والتي باتت قاطنة في سائر البلدان الأوروبيّة خاصّة بعد الحرب العالمية الأولى، فقد خسرت ألمانيا حوالي عُشر أراضيها، وحوالي عُشر سكّانها، وتلاشت فكرة الوحدة بين ألمانيا والنمسا، والتي ـ أي النمسا ـ تضمّ أكبر تواجد ألماني خارج ألمانيا، وصار حوالي مليوني ألماني ضمن حدود بولندا، وحوالي أربعة ملايين ضمن حدود تشيكوسلوفاكيا، ولهذا بدأت الحرب فعليّاً بهجوم الألمان على بولندا بهدف ضمّ الأقليّات الألمانية للدولة الكبيرة، وبحجّة أنّ بولندا هي التي بدأت الحرب.

ومن هذا النوع شعار (معاداة الساميّة) الذي يستخدم اليوم لتصفية حسابات مع دول وتيارات ومنظمات شعبيّة، ومع أفراد أيضاً، فيتحوّل الدفاع عن هذه الأقليّة الساميّة إلى حرب لمهاجمة الآخرين، وإن كان شعار معاداة السامية مرفوض مبدئياً؛ لأنّ معاداة الأعراق والقوميات أمر مرفوض.

وبهذا تحوّلت الأقليّات إلى قضية بالغة الخطورة الأمنيّة والقلق، وتسبّبت بأزمات في العلاقات بين الدول في العالم، وربما لهذا السبب أطلق بعضهم على القرن العشرين أنّه قرن الأقليّات، بل يتوقّع بعضهم أن يستمرّ هذا الوضع في القرن الحادي والعشرين ليكون قرنَ قيام الأقليّات ونهوضها([3])، الأمر الذي يترك تأثيراً كبيراً على السلام العالمي واستقرار الدول والشعوب.

إلا أنّ تحوّل العالم تدريجيّاً نحو الدولة المدنيّة، بعيداً عن الدول الأيديولوجيّة أو الدينيّة أو القوميّة أو العرقيّة، خفّف من مستوى الفوارق بين الأقليّة والأكثريّة؛ لأنّ عنوان الانتماء بات متساوياً بالنسبة للجميع، فالانتماء لهذا الوطن أو ذاك لا فرق فيه بين هذه القوميّة أو تلك، وهذه الديانة أو تلك؛ لأنّ مفهوم الوطن الحديث تحرّر تماماً ـ نظريّاً ـ من هذه المقولات أو بدرجة كبيرة جداً.

مع ذلك، لا يمكن لأيّ مجتمع أن يخلو من ثنائية الأقليّة والأكثريّة، ففي الحياة الديمقراطيّة نفسها تظهر الأقليّات التي تقف في خطّ المعارضة عند فشلها في الانتخابات، ومن ثمّ فهذا نوع آخر من الأقليّات يفرض نفسه على القانون وعلى الحياة العامّة، كما وفي كلّ مجتمع تقاليده وموروثاته وعاداته وقناعاته العامّة الغالبة، وبظهور أيّ فريق وسط دائرة من الحريّات، من المتوقّع مخالفة الأكثريّة له كونه يختلف عنها أو قد يتصادم مع بعض تطلّعاتها، وبهذا لم يتمّ الخلاص من ثنائية الأقليّة والأكثريّة، بل استمرّت بأشكال أخَر، إضافة إلى أشكالها القديمة.

من هنا، حاول الإنسان الحديث التفكير بطريقة أعمق هذه المرّة لمعالجة هذه المشكلة، فارتأى أن يحقّق توازناً بين الأقليّة والأكثرية، فعنصر القوّة الذي تملكه الأكثريّة من خلال غلبتها العددية ونحوها، يمكن أن نجعله موازياً لعنصر قوّةٍ أخرى للأقليّات بمنحها المزيد من الحقوق، وفرض هذه الحقوق على الأغلبيّة قانونيّاً، وبهذا تتحوّل ـ من وجهة نظرهم ـ قضيّة المثلية الجنسيّة إلى مفهوم حقوقي إنساني يتمّ التركيز عليه لأجل الدفاع عن حقوق الأقليّات، ويتمّ تفسير هذا الحماس له في سياقٍ إنساني.

وعلى أيّة حال، فعادةً ما تطالب الأقليّات بثلاثة أمور:

1 ـ حماية الوجود، بمعنى عدم تعرّضها للزوال بالإبادة أو القتل أو التهجير.

2 ـ حماية الهويّة، من خلال حفظ هويّتها الدينية أو العرقيّة أو القوميّة أو الحزبيّة عبر تأمين كلّ المستلزمات التي تجعلها تبقى بما هي هويّة دينيّة أو قوميّة أو.. ومن ثم فالأجيال اللاحقة يمكنها الالتحاق بهذه الهويّة القائمة غير المندثرة ولا المنقرضة.

3 ـ حماية المساواة، بمعنى عدم التمييز بين الأقليّة والأكثريّة في الحقوق والوظائف والمناصب والسلطات والحرّيات والقوانين والواجبات، فليس هناك قوانين لصالح الأكثريّة تُحرم منها الأقليّات وبالعكس، إلا ضمن توافق ترضى به الأقليّة نفسها. وبهذا تظهر أشكال حماية المشاركة، أعني مشاركة الأقليّات في الحياة الاجتماعيّة والوظيفيّة والسياسيّة والفكرية والثقافية والعلميّة والاقتصاديّة، وغير ذلك.

هذا كلّه يؤكّد لنا أنّ التعامل مع موضوع الأقليّات ـ خاصّة الدينيّة ـ يشكّل قضية بالغة الأهميّة لاسيما في الدول التي تعيش فيها أقليّات دينيّة متنوّعة، فيما لا تشكّل الأغلبية فيها أغلبيةً مطلقة ساحقة، فإنّ هذا النوع من البلدان من الممكن أن يتعرّض للكثير من المخاطر إذا لم تكن السياسة والرؤية الدينيّة والاستراتيجيّة كفيلة بنزع فتائل التوتر أو القلق.

هذه القضية الشائكة لا تقف متطلّباتها عند حدود النشاط الأمني والسياسي، بل لها علاقة وطيدة بالعلاقات الاجتماعيّة بين الأقوام المختلفة وأبناء الديانات المختلفة في الوطن الواحد، ليكون لدينا ثلاثة أطراف: دولة ـ أكثريّة مجتمعيّة ـ أقليّة.. ويلعب دور الرؤية الدينيّة اللاهوتية والقانونيّة معاً الكثير من التأثير في التنبؤ بمستقبل الأوضاع في البلدان التي تواجه أقليّات متنوّعة، والسياسات الإعلاميّة والتربويّة لها الكثير من التأثير، ففي فضاء عالمنا المعاصر تغدو الأقليّات الدينية المسلمة في الغرب ذي الأكثريّة المسيحيّة والعلمانيّة، خاضعةً للكثير من الضغط الذي يمكن أن تعيشه فيما يسمّى بمناخ (الاسلاموفوبيا). إنّ التعامل مع هذه الأقليّات بطريقة غير صحيحة يمكن أن يزيد الأمور توتراً وانفجاراً، بل قد يهدّد في يومٍ ما استقرار البلدان الغربيّة نفسها.

وهكذا نجد كيف أنّ الرؤية الدينية المسيحيّة عبر التاريخ أرخت بظلالها على العلاقات المسيحيّة مع الأقليّات اليهوديّة في المجتمعات المسيحيّة، ولاقى اليهودُ أشدّ أنواع القمع والتنكيل والإقصاء في أوروبا حتى لم يكن يُسمح لهم بالعيش وسط المدن والقرى، بل لهم مخيماتهم الخاصّة، حتى وصل الأمر إلى ما حلّ باليهود في الحرب العالميّة الثانية، على خلاف المشهد في العالم الإسلامي مع اليهود تاريخيّاً، حيث كان فيه الكثير من التسامح والتعاون.

حقوق الأقليّات في التجربة الوضعيّة
يبدو من قراءة التاريخ أنّ عقدة الأقليّات كانت في الغالب عقدةً دينيّة، ولهذا كان التفكير دائماً في التعامل مع هذه الأقليّات الدينيّة، لكنّ الحرب العالميّة الأولى غيّرت هذا الوضع تماماً، لأنّ مستوى (الخوف من) العنف القومي والعرقي واللغوي وغيره فيها وبعدها كان عالياً وفرض أنواع أكثر إضافيّة من قمع الأقليات والتعامل معها، بحيث شكّل نهضة معاكسة حقوقيّة في هذا الموضوع، بل يمكن أن نشهد مشكلة الأقليّات السود في المجتمعات الغربية منذ تمدّد الاستعمار، وتأثير مزاوجة الداروينيّة الاجتماعية مع النزعات العرقية والقومية المتطرّفة.

إنّ ظهور الدول القوميّة منذ القرن الثامن عشر الميلادي سلّط الضوء أكثر على أنواع جديدة من الأقليّات، غير الأقليات الدينيّة، بحيث بدأ تدريجياً بفرض التفكير في هذا النوع من الأقليّات والتعامل معه، لكنّ تغيّرات العالم مع الحرب العالميّة الأولى جعل القضيّة أكثر سخونة، فانهيار الدول العظمى في تلك الحرب، مثل الامبراطورية العثمانيّة والألمانية وغيرها، أعاد تشكيل دول جديدة في أوروبا، وبهذا تغيّرت الخارطة السكّانيّة تبعاً لتغيّر الدول، وحذراً من حمام الدم توجّه العالم للتفكير في حماية الأقليّات عبر معاهدة فرساي (1919م) في الشمال الفرنسي، والعديد من المعاهدات والاتفاقيّات الأخرى، وبهذا بدأنا نشهد نهضة جديدة في قضيّة حقوق الأقليّات في العالم، إلى أن أدرجت عصبة الأمم قضيّة الأقليّات على جدول أعمالها، الأمر الذي أسّس لمرحلة جديدة في هذا الموضوع.

وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية التي كانت من أسبابها المعلنة حماية الأقليّات الألمانيّة عاد موضوع الأقليّات للتداول بقوّة من جديد، وقد تعزّز هذا الأمر بتفكّك الاستعمار في العالم وظهور دول جديدة كثيرة تحكمها إثنيات وديانات ومذاهب ولغات مختلفة، وبهذا صار الموضوع أكثر جديّةً.

وقد طوت التجربة الإنسانيّة خلال الفترة الفاصلة بين الحرب العالمية الثانية وإلى اليوم، عدّة خطوات مهمّة، أبرزها:

1 ـ في إعلان الأمم المتحدة عام 1945م عقب انتهاء الحرب، لم تتمّ الإشارة الصريحة لقضيّة الأقليّات، بل تمّت الإشارة لاحترام الحريّات وحقوق الإنسان، دون تمييز في الجنس والعرق واللغة والدين، وذلك في البند الثالث من المادة الأولى، والذي نصّ على «تحقيق التعاون الدولي على حلّ المسائل الدوليّة ذات الصبغة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإنسانيّة، وعلى تعزيز احترام حقوق الإنسان والحريّات الأساسيّة للناس جميعاً، والتشجيع على ذلك إطلاقاً بلا تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين، ولا تفريق بين الرجال والنساء»([4])، وكذلك في البند ج من المادة 55، حيث يقول: «أن يشيع في العالم احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للجميع بلا تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين، ولا تفريق بين الرجال والنساء، ومراعاة تلك الحقوق والحريّات فعلاً»([5]).

2 ـ تأسيس اللجنة الفرعية لمنع التمييز وحماية الأقليات، وذلك عام 1947م، من قبل الأمم المتحدة.

3 ـ لم يتمّ الحديث صريحاً في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والصادر عام 1948م، عن قضيّة الأقليّات باستثناء ما ورد في المادة الثانية من الحديث عن الحقوق والمساواة، بصرف النظر عن اللغة والدين والعرق والعقائد السياسيّة، ونصّ المادّة هو: «لكلِّ إنسان حقُّ التمتُّع بجميع الحقوق والحرِّيات المذكورة في هذا الإعلان، دونما تمييز من أيِّ نوع، ولا سيما التمييز بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدِّين، أو الرأي سياسيّاً وغير سياسي، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي، أو الثروة، أو المولد، أو أيِّ وضع آخر. وفضلاً عن ذلك لا يجوز التمييزُ على أساس الوضع السياسي أو القانوني أو الدولي للبلد أو الإقليم الذي ينتمي إليه الشخص، سواء أكان مستقلاً أو موضوعاً تحت الوصاية أو غير متمتِّع بالحكم الذاتي أم خاضعاً لأيِّ قيد آخر على سيادته»([6]).

4 ـ تصويب القرار رقم 217، بتاريخ 10 ـ 12 ـ 1948م، تحت عنوان مصير الأقليّات، وقد أتى مكمّلاً للإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

5 ـ في عام 1965م، تمّ إلغاء كلّ أشكال التمييز العرقي، وتأسيس هيئة ناظرة في هذا الصدد، وقد صدر القرار رسميّاً عام 1969م.

6 ـ ما يعتبر من الخطوات المهمّة جداً في هذا المجال، وهو التوافق على العهد الدولي الخاصّ بالحقوق المدنية والسياسية عام 1966م، والذي وقّعت عليه أكثر من مائة وسبعين دولة، والذي تحدّث بشكل واضح وصريح عن التمييز وعن حماية الأقليّات، مصرّحاً بالأقليّات الدينية واللغوية والعرقيّة.

7 ـ ما يعتبر تتويجاً لمسيرة طويلة من الدفاع عن الأقليّات في العالم، وهو ما صدر ضمن قرار الجمعيّة العامة للأمم المتحدة، وذلك في 18 ـ 12 ـ 1992م، والذي يعدّ آخر ما توصّل إليه العقل الإنساني الوضعي في مجال أممي للتعامل مع الأقليّات.

ويكفي مطالعة المادّة الأولى من موادّ هذا الإعلان، والتي تنصّ: «على الدول أن تقوم، كلّ في إقليمها، بحماية وجود الأقليّات وهويّتها القومية أو الإثنية، وهويتها الثقافية والدينيّة واللغوية، وبتهيئة الظروف الكفيلة بتعزيز هذه الهويّة».

من فلسفة قضيّة الأقليّات في الفكر الديني
كان ما تقدّم حديثاً عن تجربة الإنسان الوضعي في العصر الحديث، في تعامله مع قضيّة الأقليّات انطلاقاً من التهديد الذي فرضته هذه القضيّة، خاصّةً في أوروبا (الحربين العالميّتين) وأميركا (حقوق السود) وغيرها.

لكنّ الأديان تملك تجربةً طويلة غارقة في القدم مع موضوع من هذا النوع؛ لأنّ العنصر الأكثر تأثيراً في تكوين الهويّة في العصر ما قبل الحديث كان هو الدين، ومن الطبيعي أن تتشكّل هويّة الأقليّات والأكثريّات على أساس الدين ـ إلى جانب غيره ـ بوصفه مؤثراً رئيساً.

إلا أنّ موضوع الأقليّات في التناول الديني يختلف عنه في تناول الإنسان الحديث، فالإنسان الوضعي الحديث ـ لا أقلّ نظريّاً ـ كان يتعامل مع طرف واحد يريد أن يحلّ له قضاياه، وهو الإنسان نفسه، بينما الفكر الديني لا يقرأ الأمور بهذه الطريقة. إنّه يرى أنّ هناك الإنسان وفي الوقت عينه هناك الله سبحانه بما يمثله من حقيقة عليا، تلك الحقيقة التي تجلّت في الأديان والوحي، ومن ثمّ فالدين يراقب قضيّة الله كما يراقب قضيّة الإنسان، ولا يريد أن يُلغي حقّ الإنسان وينحره في سبيل حقّ الله نظراً لما للإنسان في عين الله أيضاً من قيمة وكرامة، في الوقت عينه الذي لا يريد العكس.

وهذا يعني أنّ الفكر الوضعي الحديث ليس عنده وراء الإنسان (بما هو في الدنيا) شيء، فليس وراء عبّادان قرية، بينما الدين يجد أنّ وراء الإنسان حقيقة أعلى، وأنّ الإنسان يحصل على كماله بها، وأنّ خدمة الإنسان في مصيره ونجاته عبرها، بل الأنا الإنسانيّة الحقيقيّة في الدين لا تكون إلا بتلك الحقيقة، وإلا فهي أنا مزيّفة وموهومة، قال سبحانه: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ) (البقرة: 8 ـ 12)، وقال تعالى: (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) (المؤمنون: 54 ـ 61)، فهذه النصوص ترشد إلى الأنا الزائفة والوهم الذي يعيشه البشر في تقويمهم لأوضاعهم، فيما يضيّعون الأنا الحقيقيّة التي لا تكون إلا بالله سبحانه.

لهذا يظهر الدين حريصاً على حقيقةٍ خارجَ الإنسان، ومن ثمّ فحماية الأقليّات أو التعامل معها ينبغي ـ في الدين ـ أن لا يكون على حساب سائر عناصر الصورة، وهو ضياع الحقيقة الدينية وتلاشي المناخ الإيماني، ومن هنا اعتبر الدين أنّ الجماعة المؤمنة هي بيئة حاضنة لقيامة الإيمان، وأنّ حماية هذه البيئة الحاضنة هو ضرورة كذلك، لذلك وجدنا حرصاً من الدين على هذه الجماعة وعلى الحقيقة بقدر حرصه على الإنسان.

ووفقاً لذلك يظهر تصنيف الدين للبشر، إلى مؤمنين وغير مؤمنين، وهو تصنيف لم تحتمل العديد من الأديان أن تلغيه؛ لأنّه يمثل جوهر قضيّتها في الحياة، وهذا ما يفسّر لنا أنّ بعض الأديان كالإسلام والمسيحيّة، لا تنظر إطلاقاً للتمييز في اللون والعشيرة والقبيلة والعرق واللغة والقوميّة؛ لأنّ هذه الأمور لا تدخل ضمن أولويّاتها، فإنّ تصنيف البشر يقوم على معيار، وهذه الأمور لا تعبّر في الدين عن معيار، ولو عبّرت بعض الأمور عن معيار مثل الجنس (ذكورة وأنوثة) فلاعتبارات تنظيميّة ـ وأحياناً جوهريّة ـ لا غير.

وبتبع تقسيم البشر إلى مؤمنين وغير مؤمنين، تتأثر الجغرافيا أيضاً في الفكر الديني، وخاصّة الإسلامي، فيظهر ما يسمّى بدار الإسلام ودار الكفر أو دار الحرب.

هذا الفضاء نجد انعكاسه جليّاً في تاريخ المسيحيّة والإسلام معاً، ففي المسيحيّة يمكننا ملاحظة تجربة القدّيس توما الأكويني (1274م) وهو يحدّد الموقف من المخالطة الاجتماعيّة مع الآخر غير المسيحي، إنّه يضع هذه العلاقة في سياق متحرّك في الزمان والمكان والظرف والحال، وتتبع طبيعة النتائج المتوقّعة من ورائها، فإذا كانت النتائج خطرةً على الإيمان المسيحي، كان الموقف سلبيّاً من هذه المخالطة، دون العكس([7]). وبهذا يبدو واضحاً أنّ الأكويني يفكّر ذرائعيّاً في موضوع العلاقة مع الكافرين؛ فهو ينظر إلى المآلات التي يمكن أن توصلنا إليها هذه العلاقة، وما إذا كانت سوف تشكّل تهديداً للجماعة المسيحيّة أو لا، أو تهديداً للإيمان المسيحي أو لا.

وعندما ينتقل الأكويني نحو قضيّة السماح بطقوس الآخرين من غير المسيحيّين، نجده يضع قِبْلَتَه في مديات خدمة ذلك للإيمان المسيحي، ففي البداية ينطلق من نوعٍ من المحاكاة بين السياسة الإلهيّة والسياسة البشريّة، حيث يؤسّس أصلاً قانونيّاً يعتبر فيه أنّ السياسة البشريّة عليها أن تقتدي بالسياسة الإلهيّة، وبهذا يطرح الأكويني موقفَه من قضيّة الشرور في العالم، حيث يرى أنّ الله يسمح ببعض الشرور انطلاقاً من أنّ منعها ربما يؤدّي إلى شرور أعظم أو إلى خسارة خيرات أكبر، وهو بهذا يعيد إلى أذهاننا النظريّة التي تستخدم في تفسير الشرور في العالم الجملةَ الآتية: إنّ ترك الخير الكثير من أجل شرٍّ قليل هو شرٌّ كثير.

بناءً على ذلك، يعتبر الأكويني أنّه من الممكن أن نحتمل طقوس الكافرين ـ وهو إلى الآن يلاحظ اليهود بالخصوص ـ لأجل خيرٍ أعظم، وهو إثبات الديانة المسيحيّة؛ لما بين اليهوديّة والمسيحيّة من اتصال تاريخي ولاهوتي عميق، فيقبل بطقوس اليهود، لكنّه يرى أنّ طقوس الوثنيين وأمثالهم لا فائدة منها ولا خير يمكن أن نحصل عليه من ورائها لإثبات حقيّة المسيحيّة مثلاً، لهذا فهو يرفض احتمالها، والقبول بها أمراً واقعاً ما لم يكن في مواجهتها مفسدة عظيمة أو تشكيكاً أو نزاعاً قد يُلحق ضرراً بالمؤمنين([8])، وهو بهذا ينطلق في ذهنيّته مرّةً جديدة من قواعد فقه الأولويّات وقوانين تزاحم المصالح والمفاسد، لخدمة الإيمان والمؤمنين، ليدير السياسة الشرعيّة عبر هذا النوع من المعايير والقيم.

وبهذا لو جاز لنا تصنيف الأكويني، لوضعناه ضمن الاتجاه الرافض لطقوس الآخرين تماماً، ما لم تكن للإيمان المسيحي مصلحة، فقبوله بالطقوس اليهوديّة ليس كَرْمَى لعيون اليهود، بل لما في بقاء اليهوديّة من تثبيت لقواعد الإيمان المسيحي، وبهذا تبدو وصوليّة الأكويني جليّةً هنا، بالمعنى غير السلبي للكلمة، بمعنى أنّه يتوسّل بالحريّة الطقوسيّة للآخرين كي ينتفع بها للإيمان، ولهذا وبمجرّد أن لا يرى من ورائها منفعة له يتجه نحو منعها تماماً، كما رأينا موقفه من طقوس الوثنيّين.

هذا في تاريخ المسيحية، أمّا في تاريخ الإسلام، فإذا أردنا الدخول لفضاء الفقه الإسلامي، فنحن نلاحظ عنصرين لعبا دوراً في تقديم قراءة لاهوتيّة للعلاقة مع الأقليّات:

أ ـ عنصر الهويّة الدينيّة، ووفقاً لهذا العنصر تمّ تقسيم المجتمع إلى ثلاث مجموعات، هي: المسلمون، أهل الكتاب، من سواهم.

ب ـ عنصر الحالة الميدانية القائمة بين المسلمين ومن سواهم، وهي تنقسم إلى قسمين: حالة الحرب، وحالة السلم.

وبنظرة كليّة قام الفقه الإسلامي بتقسيم الخارطة الجغرافيّة للعالم إلى ثلاث بقاع:

دار الإسلام، وهي البلدان التي تقطنها غالبيّة مسلمة أو تقع تحت سلطة المسلمين.

دار الحرب، وهي البلدان التي تقطنها غالبيّة غير مسلمة، وهي محاربة للمسلمين.

دار العهد، وهي البلدان التي يقطنها غير المسلمين، بيد أنّ بينهم وبين المسلمين معاهدة وسلام.

وبهذا يتبيّن أنّ الأقليّة المسلمة سوف تكون في دار العهد أو دار الحرب، فيما الأقليّة غير المسلمة سوف تكون في دار الإسلام. وقد استخدم الفقه الإسلامي في حقّ الأقليّات غير المسلمة الموجودة في دار الإسلام سلسلة تعابير من نوع: أهل الذمّة، المستأمنون..

ويشرح بعض الباحثين المعاصرين أنّ الأقليات غير المسلمة في دار الإسلام تعرّضت للدراسة من فئات من الباحثين والدارسين:

1 ـ الفقهاء المسلمون، حيث درسوا الأوضاع القانونية لهذه الأقليّات، وفقاً للشريعة الإسلاميّة.

2 ـ الحقوقيّون المعاصرون، الذي درسوا أوضاع هذه الأقليّات من زوايا حقوقيّة بالمعنى المعاصر للكلمة في فضائها الوضعي.

3 ـ المؤرّخون، وهم الذين درسوا أحوال الأقليّات الدينيّة عبر التاريخ الإسلامي في بلاد المسلمين وطريقة تعامل المسلمين معهم([9]).

وبهذا نلاحظ أنّ (الدين + الحالة السياسيّة) يلعبان دوراً في تحديد نوع العلاقة مع الآخر، في الفقه الإسلامي.

كلمة أخيرة
ووفقاً لهذا التصوّر العام يظهر التمايز واضحاً بين الرؤية الوضعيّة والرؤية الدينيّة، والتحدّي الأكبر الذي يواجه الدين اليوم في قضيّة من نوع الأقليّات الدينيّة، هو التصادم الذي سوف يقع بين بارادايم (paradigm) الدين في ثنائية: الله/الإنسان، وبارادايم الفكر الوضعي الحديث في محوريّة الإنسان، وهو ما يفرض في ظلّ خطورة وحساسيّة النتائج التي يمكن التوصّل إليها:

أوّلاً: ضرورةَ البحث المعمّق وتجديد النظر بشكل محايد في الرؤية القانونيّة الدينيّة من موضوع الأقليّات والموضوعات التي تترك أثراً عليه، بعيداً عن الحمولات المسبقة بما فيها الحمولات الآتية من التراث نفسه.

ثانياً: تقديم مقاربة فلسفيّة لتعقيل هذه الرؤية لو كانت النتائج غير متوافقة مع ما توصّل إليه العقل الوضعي، والهدف من التعقيل ليس أنّ الفكرة الدينية غير عقلانيّة، ونريد تعقيلها، بل محاولة تقديمها بطريقة صالحة للتبرير في فضاء الفكر المعاصر، فهذه حاجة زمنيّة اليوم؛ لأنّ التبرير العقلاني هنا ضمن سياقات مختلفة ضروري بالنسبة إلينا في هذه اللحظة الزمنيّة، ولو كان هذا التبرير متضمّناً لعمليّات نقد فلسفي لأصول مدار الفكر الوضعي الحديث.

_________________________

([1]) نشر هذا المقال ـ بوصفه كلمة التحرير ـ في العدد 55 ـ 56، من مجلّة نصوص معاصرة، في بيروت، لبنان، صيف وخريف عام 2019م.

([2]) الأقليّات مصطلح له تعريفات متعدّدة في الفكر السياسي الحديث، أبرزها:

1 ـ التعريف ضمن السياق العددي، فالأقليّة هم الأقلّ عدداً في مجتمعٍ ما يخضع لسلطة «دولة».

2 ـ التعريف في سياق القوّة، فالأقليّة هي الجماعة مهضومة الحقّ أو المستضعفة والتي تتحكّم بها جماعة أخرى تنهب حقوقها أو بعض حقوقها أو تتميّز عنها في الحقوق، ضمن وضع سلطوي «دولة..».

([3]) انظر: تقي دشتي، حقوق اقليتهاى قومي: 20.

([4]) انظر الموقع الرسمي للأمم المتحدة: http://www.un.org/ar/sections/un-charter/chapter-i/index.html.

([5]) انظر الموقع الرسمي للأمم المتحدة: http://www.un.org/ar/sections/un-charter/chapter-ix/index.html.

([6]) انظر الموقع الرسمي للأمم المتحدة: http://www.un.org/ar/universal-declaration-human-rights/index.html.

([7]) انظر: توما الأكويني، الخلاصة اللاهوتيّة ج2، ق2، المبحث10، فصل9 (مج5: 503 ـ 505).

([8]) انظر: المصدر نفسه ج2، ق2، المبحث10، فصل11 (مج5: 508 ـ 510).

([9]) انظر: محسن كديور، حقّ الناس، اسلام وحقوق بشر: 380 ـ 381.


إن من أهم العوامل التي ساعدت على بقاء نور الإسلام في أندونيسيا ورسوخه وسرعة انتشاره هو أنه وصل إليها عن طريق الشيعة الهاربين من بطش الأمويين والعباسيين، وقد اتفقت كل تواريخ هذه الجزر في تلك البلاد على أن أول الدعاة الذين قدموا إليها كانوا من الشيعة ومن السادة العلويين وعلى أيديهم انتشر الإسلام في هذه الجزر، ولم يحملوا سيوفاً مصلتة، بل حملوا قلوباً مفعمة بالحب والسلام، يقول الأستاذ برج في كتابه (وجهة الإسلام): (تترامى حدود العالم الإسلامي في عرض هذه الجزائر وتمتد، وبينا تمتد حدود العالم الإسلامي شرقاً كل يوم أمام دعاة صامتين مجهولين مقطوعين وغير مبعوثين رسمياً).

تأسيس الممالك الشيعية

وكانت نتيجة انتشار الإسلام في هذه الجزر قيام ممالك شيعية عديدة فيها تباينت في مدة حكمها ورقعتها الجغرافية، ومن هذه الممالك باساي وبرلاك وبروني وكرسيك وبانتن وغيرها، وقد اختلف المؤرخون في تاريخ قيام أول مملكة شيعية في أندونيسيا بين باساي وبرلاك، وكان سبب عدم ضبط التواريخ لهاتين المملكتين وغيرها هو الأوضاع السياسية التي مرت بها أندونيسيا في عصور الإحتلال الإنكليزي والأسباني والهولندي الذي عاث فساداً في هذه الأرض، وكان من تبعاته ضياع الكثير من تاريخها وإحراق وأتلاف الكثير من الوثائق التاريخية.

سرقة التاريخ

كما سُرقت الكثير من المخطوطات الأثرية والكتب، ومن الهولنديين الذين جمعوا الكتب المالاوية والجاوية والعربية فن درتوك وميروالد ودامربور وأوفهيسن وغيرهم، وقد وضعوا ما سرقوه تحت إشراف بورتمان في دلفت بهولندا، وكان بورتمان حاكماً على منطقة جامبي بسومترا وقضى نحو نصف قرن يدرس هذه المخطوطات والوثائق، كما جمع الكثير منها وبعث بها إلى حكومته، كما جمع رافلس كثيراً من الكتب الخطية والمخلفات الأثرية وحزمها في صناديق وأرسلها إلى أوربا.

برلاك أولى الممالك

غير أن بعض الوثائق المتبقية ترجح كفة مملكة برلاك التي قامت عام (520هـ/1126م) في حين إن وفاة أول حاكم على مملكة باساي وهو الملك الكامل كان عام (607هـ/1210م)، وهناك من يقول إن الإسلام وصل إلى جزر سومترا عن طريق مملكة باساي التي تقع شمال برلاك، وبغض النظر عن الفارق الضئيل في السنوات بين قيام المملكتين فقد عاشتا متزانتين ومتعاونتين وكانت تسود أجواءهما علاقات ودية ومصاهرات بين ملوكها.

وعن وصول الإسلام إلى هذه المملكة ينقل الأستاذ ضياء شهاب عن المؤرخ الحاج زين الدين في كتابه (تاريخ أجيه دن نوسانتارا) قوله: (وصل إلى برلاك جماعة من العرب والهنود، من بينهم سيد علوي النسب تزوج بنتاً لملك برلاك فكان له ذرية هناك وبعد خمسين عاماً صارت برلاك سلطنة إسلامية سنة (470هـ/1078م).

سلاطين برلاك الشيعة

وهؤلاء هم سلاطين برلاك كما ذكرهم الحاج زين الدين وذكر تواريخ حكمهم:

1 ـ علاء الدين شاه: (520 ـ 544هـ/1126 ـ 1149م): (واسمه السيد عبد العزيز وهو من الشيعة، أمه بنت ملك برلاك.

2 ـ عبد الرحيم بن عبد العزيز: (544 ـ 568هـ/1149 ـ 1172م)

3 ـ عباس بن عبد الرحيم: (568 ـ 594هـ/1172 ـ 1197م)

4 ـ علاء الدين مؤيد شاه: (594 ـ 597هـ/1197 ـ 1200م)

وبعد أن يصل الشيخ زين الدين في تسلسله لملوك برلاك الشيعة إلى السلطان الرابع من سلاطينها يذكر اسماً غير إسلامي هو (أرانغ كايا): (598 ـ 641هـ/1200 ـ1243م)، وهو خالٍ من التسلسل، مما يدل على أن برلاك وقعت بيد الوثنيين، فهو اسم وثني كما يُلاحظ، وتشير التواريخ إلى أن الممالك الوثنية حاولت أن تخمد شعلة الإسلام التي توقدت في تلك الأرض.

وقد ذكر الرحالة ماركو بولو في رحلته إلى سومطرا الشمالية عام (1292م) (أن هناك ثمان ممالك وثنية ما عدا برلاك فإنها مسلمة)، والواقع أن برلاك لم تكن المملكة المسلمة الوحيدة، فقد كانت هناك ممالك أخرى مثل التي ذكرنا بعضها آنفاً، ومنها مملكة باساي التي تزامن تأسيسها مع تأسيس برلاك، إلا أن قوله يوضح أن هناك ممالك وثنية أيضاً في نفس الجزيرة.

نهضة برلاك الحضارية

وكان من أسباب غزو الممالك الوثنية للممالك الإسلامية هو سرقة خيراتها ومصادرة حضارتها، حيث عاشت برلاك قمة تمدّنها وتحضّرها وازدهارها الإقتصادي والاجتماعي في عصر السلاطين الشيعة، وأصبحت برلاك في عهدهم مركزاً لنشر الإسلام، كما عاشت نهضة عمرانية فاهتمت ببناء المساجد والمعاهد الإسلامية، كما تم فيها سكَّ النقود الإسلامية للمرة الأولى في إندونيسيا وكانت تحمل الكتابات العربية.

كانت هذه من أسباب هجوم مملكة (سري ويجايا) البوذية عليها والسبب الرئيسي هو محاولات الوثنيين للحد من انتشار الإسلام بين الممالك، ومحاولة احتلال الممالك الإسلامية وإرجاعها إلى الوثنية، يقول السيد محمد ضياء شهاب: (وحاولت مملكة (سري ويجايا) الوثنية إخضاع هذه الإمارة المسلمة ـ يقصد برلاك ـ التي أخذ عمرانها يتقدم وشأنها يظهر، ولكنها رفضت الخضوع فجهزت (سري ويجايا) حملة عام (670هـ/1271م) عليها، وعلى الرغم من وجود نزاع داخلي في برلاك فإن المسلمين اتحدوا ضد العدو المهاجم بقيادة السلطان ملك إبراهيم، واستمرت الحروب سجالاً ثلاث سنوات، واندحر المسلمون على الشواطئ إلى الأماكن الداخلية، ولكن الحروب لم تخمد، ثم انسحبت قوات سري ويجايا عام (673هـ/1275م) لتواجه زحفاً جديداً عليها من قبل (كرتانكارا) ملك جاوا، وعاد المسلمون إلى وطنهم، وبقي آخرون منهم في الدواخل يمهدون فيها وسائل العمران والزراعة).

ويظهر من كلام السيد ضياء إن طريق الشيعة لنشر الإسلام في تلك البلاد لم يكن مفروشاً بالورود، بل واجهوا صعوبات جمة في الحفاظ على الممالك التي استطاعوا نشر الإسلام فيها، ومن أروع صور التلاحم بين المسلمين في هذه المملكة هو إتحاد هذه المملكة ونبذ النزاع والخلاف الداخلي وتوحيد الصفوف لمواجهة العدو الوثني الخارجي عملاً بقوله تعالى (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) فكانوا يداً واحدة لصد الهجوم.

عودة برلاك الإسلامية

ونعود إلى الشيخ زين الدين ليكمل لنا تسلسل السلاطين المسلمين على برلاك، فيذكر أسماء ثلاثة سلاطين يكمل بهم تسلسل سلاطين برلاك، غير أنه يذكر أنهم من الأسرة التي نازعت أسرة عبد العزيز الحاكمة وهؤلاء السلاطين الثلاثة هم:

5 ـ عبد القادر شاه: (ت 1242م) وهو أول ملك من الأسرة التي قاومت أسرة عبد العزيز

6 ـ علاء الدين محمد أمين بن عبد القادر (641 ـ 665هـ/1243 ـ 1267م) وهذا الملك كان من العلماء، وقد أسس قبل توليه الحكم مدرسة عالية في بايون (أرميه ـ جونكالا) ووسع ملكه إلى حدود (جمبواير) وفي عهده أنشئ ميناء (باسما) وهي بلدة جديدة بين برلاك وجمبواير، وقد تزوج هذا الملك ابنة سلطان مملكة (باسي) الشيعية الملك الصالح وتزوج أختها اسكندر شاه ملك (توماسيك) سنغافورة.

7 ـ عبد الملك بن محمد أمين (665 ـ 674هـ/1267 ـ 1275م)

وفي عهد الأخير حدثت اضطرابات وفتن دامت لسنوات خلا فيها كرسي السلطنة وانشقت برلاك إلى إمارتين، برلاك الجنوبية وعليها علاء الدين محمود الذي تولاها من عام (678هـ/1280م) إلى عام (691هـ/1292م)، والأخرى برلاك الشمالية وعليها المخدم ملك إبراهيم الذي تولاها من عام (678هـ/1280م) إلى عام (695هـ/1296م) ثم اتحدت المملكتان قبل أن تنضما مع باقي الممالك تحت سلطان علي معايت مؤيد شاه (ملك اجيه) لمواجهة الإحتلال البرتغالي الذي دخل أرضهم عام (1509م)

التاريخ الثاني لبرلاك

هذه التواريخ لهذه المملكة هناك من يقول بغيرها بنسبة كبيرة فقد جاء في كتاب (كاجه بوتيه) لمحمد يونس جميل: (إن تأسيس برلاك كان عام (225هـ/840م)، وجاء قوله هذا نقلا عن بعض المخطوطات: (إن أول مملكة إسلامية في أندونيسيا هي مملكة (برلاك) الواقعة في جزيرة سومطراء وقامت في سنة (225 أو 227) الهجرية إثر انقضاض مملكة هندوسية- بوذية هي: (سريويجايا) في سومطراء ويؤكد هذا القول البروفسور أ.هشمي بقوله:

(في سنة (173) هجرية أرفأت سفينة إلى ميناء برلاك وأقلّت مائة نفر من عرب وفرس وهند. ومن بين المستقلّين السيد علي من قريش ثم تزوّج هذا السيد بأحدى بنات (برلاك) وأنجب منها ولداً اسمه السيد عبد العزيز. ثم في غّرة محرم سنة (225 هجرية) أعلن قيام مملكة (برلاك) الإسلامية، وأول من تولّى على منصّة الحكومة هو السيد عبد العزيز الملقّب بالسلطان علاء الدين السيد مولانا عبد العزيز شاه).

ثم يذكر أ.هشمي نسب السيد عبد العزيز الذي صار الملك الأول في مملكة (برلاك) الإسلامية وتمّت الموافقة عليه من مجلس العلماء التابع لحكومة أتشيه الحالي بأنه: السيد عبد العزيز بن السيد علي بن السيد محمد الديباج بن الإمام جعفر الصادق بن الإمام محمد الباقر بن الإمام علي زين العابدين بن الإمام الشهيد الحسين بن الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام).

وقد تبنّى رئيس مجلس علماء الإسلام في أندونيسيا عمر شهاب الرأي الذي قال به أ.هشمي في حوار أجري معه حيث يقول: (في العام (173هـ) وصلت سفينة عربية إلى مدينة برلاك عليها مئة رجل من الدعاة المسلمين، يتولى قيادتهم الربان خليفة وقد التقى بهم الملك شاهر وعرف عنهم الإسلام فاعتنقه).

وقد اعتمد هشمي وغيره ممن تبنى هذا الرأي على ماجاء في كتاب (شمس الظهيرة) (ص11): للسيد عبد الرحمن بن محمد المشهور: (أن أحد أولاد الإمام جعفر- الإمام السادس من أئمة أهل البيت عند الشيعة الإمامية- المسمّى بالسيد محمد الديباج قد خالف الخليفة المأمون العبّاسي ثم ذهب الى بلاد العجم وتوفّي فيها سنة 183 هجرية).

وممن قال بهذا الرأي أيضاً حسين محمد الكاف الذي تحدث عن تفرّق العلويين في البلدان النائية عن مركز الإسلام وهجرتهم الى الأماكن التي يصعب إليها الوصول خوفاً من الخلافة الأموية والعباسية وحفاظاً على الدين والأنفس. ثم قال: والسيد محمد الديباج بن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) هاجر إلى بلاد العجم ثم من بعده هاجر ابنه السيد علي إلى جزيرة سومطراء وتزوج بإحدى نسائها.

وقد صنف حكم سلاطين برلاك حسب التواريخ الآتية:

1- السلطان علاء الدين السيد مولانا عبد العزيز شاه: (225- 249هـ) ( 840- 846م).

2- السلطان علاء الدين السيد مولانا عبد الرحيم شاه (249- 285هـ) (864 - 888م).

3- السلطان علاء الدين السيد مولانا عباس شاه (285-300هـ) (888 – 913م).

4- السلطان علاء الدين السيد مولانا علي معيّات شاه (302- 305هـ) (915- 918م).

ثم يقول إن حكومة برلاك انتقلت بعد السلطان الرابع إلى السنة وينسب إليهم آخر الملوك الثلاثة ويقول: وقعت في هذه المملكة المنازعات المذهبية بين الشيعة وأهل السنة حتى تمّ الإنهزام لحكومة آل السيد عبد العزيز وتولّى من بعدهم حكام من السنة وهم:

1 ـ السلطان مخدوم علاء الدين ملك عبد القادر شاه جهان بردولت سنة (928-932) ميلادية.

2 ـ السلطان مخدوم علاء الدين ملك محمد امين شاه جهان بردولت سنة (932-956) ميلادية.

3 ـ السلطان مخدوم علاء الدين عبد الملك شاه جهان بردولت سنة (956- 983) ميلادية.

فأي التاريخين المتباعدين هو الأقرب للحقيقة ؟ وما مدى صحة نسبة السيد عبد العزيز (علاء الدين شاه) أول ملوك برلاك ألى علي بن محمد اليباج مباشرة ؟ وهل تولّى السنة الحكم على برلاك بعد السلاطين الشيعة الأربعة ؟ وما هو مصدر هذا الالتباس ؟

وبالرجوع إلى نسب السيد عبد العزيز شاه علاء الدين فإنه كما نسبوه هو ابن علي بن محمد الديباج بن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، وإن السيد محمد الديباج هو شقيق الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) من أمه السيدة حميدة، وكان يروي العلم عن أبيه (عليه السلام).

وقد قام السيد محمد الديباج بثورة في أيام المأمون عام (199هـ) انتهت باستسلامه ومن ثم قتله بالسم على يد المأمون عام (203هـ) في خراسان ودفن بها، وهذا باتفاق جميع المصادر، إذن فلا صحة لما قاله عبد الرحمن بن محمد المشهور في كتابه (شمس الظهيرة) من أن محمد الديباج مات سنة (183هـ).

أما عقب محمد الديباج فقد جاء في كتاب الفخري في أعقاب محمد بن جعفر الديباج: وأما محمد الديباج ابن جعفر الصادق فعقبه من ثلاثة رجال: علي الحارض، والقاسم والحسين. وما يهمنا هنا هو عقب علي الحارض لأن نسبة السيد عبد العزيز إليه، وعقبه باتفاق جميع كتب الأنساب من الحسين والحسن فقط لا غير وليس لديه ولد اسمه عبد العزيز.

واتفقت على ذلك كتب (عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب) لجمال الدين أحمد بن علي الحسيني المعروف بـ (ابن عنبة) الذي يقول عن علي الحارضي (وتوفي علي بن محمد ببغداد وقبره بها) ثم يذكر ابن عنبة عقبه وليس فيهم عبد العزيز فيقول: (وأعقب من رجلين الحسن، والحسين).

وجاء مثله في (تحفة الطالب بمعرفة من ينتسب إلى عبد الله وأبي الطالب) للسيد محمد بن الحسين بن عبد الله الحسيني السمرقندي المدني. وقد ذكر في عقب محمد بن جعفر الديباج بعد ترجمته: (وعقبه من ثلاثة: علي الخارصي - ويقال له الحاضر - بن محمد الديباج فإنه أعقب من اثنين: الحسن، والحسين).

إذن فهذه المصادر المعتبرة في الأنساب لا تتفق مع هذه النسبة المباشرة للسيد عبد العزيز، والظاهر إن السيد عبد العزيز هو من أحفاد علي بن محمد الديباج وليس ابنه مباشرة، وتواريخ الدول البعيدة عن مركز الإسلام تقع كثيراً في مثل هذا الإلتباس، فقد ورد في بعضها نسبة السيد أحمد المهاجر إلى الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) مباشرة في حين إن نسبه هو: السيد أحمد المهاجر بن عيسى النقيب بن محمد بن علي العريضي بن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام).

كما إن السيد علي بن محمد الديباج شارك في ثورة أبيه عام (199هـ) وبقي في بغداد حتى مات أبوه عام (203هـ) ومات هو ببغداد فكيف وصل إلى سومطرا عام (173هـ) ؟ والظاهر إنها سفينة وصلت إلى برلاك تحمل عددا من الشيعة ومعهم سيد علوي وقد هربوا من السلطة العباسية فاستقروا بهذه الأرض.

فالتواريخ تنفي وصول السيد علي بن محمد الديباج إلى سومطرا كما تنفي قيام مملكة برلاك عام (225هـ) لتزامنها مع مملكة باساي التي ذكرنا إن وفاة أول ملوكها كان عام: (607هـ/1210م) وانضمت إلى إجيه عام ((918هـ/1512م)، بل إن التواريخ ترجح قيام برلاك عام (520هـ/1126م) حتى عام (674هـ/1275م)

أما انتقال السلطة من السلاطين الشيعة إلى السنة بعد السلطان الرابع كما قال حسين محمد الكاف فليس هناك ما يؤيده، بل هناك ما يدل على العكس، فلم يُشر المؤرخ الكبير الشيخ زين الدين إلى ذلك، بل قال إن السلطة انتقلت إلى الأسرة التي نازعت أسرة السيد عبد العزيز ولم يقل إنها أسرة سنية، كما إن باساي التي تشير التواريخ إلى أنها نقلت التشيع إلى برلاك وبقيت مملكة شيعية حتى انضمامها إلى أجيه، كانت تربطها علاقات قوية ووثيقة مع حكومة برلاك الشيعية، وبقيت هذه العلاقات مع حكامها إلى أن تم ضمها إلى أجيه، وقد تزوج سادس ملوك برلاك علاء الدين محمد أمين بن عبد القادر (641 ـ 665هـ/1243 ـ 1267م) ابنة سلطان مملكة (باسي) الشيعية الملك الصالح.

فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن تستمر العلاقات بين الدولتين إذا كان هناك تغيير جذري في برلاك من ناحية العقيدة وخصوصاً زواج سلطان برلاك من ابنة سلطان باساي، كما لا يمكن للكاتب المعاصر أن يدلي برأي دون الرجوع إلى الدليل التاريخي الذي يثبت ذلك خاصة إذا كان مناقضاً لما قال به التاريخ.

إن مملكة برلاك شيعية خالصة وقد بنى بها الشيعة حضارة شاهقة ستبقى مصدر فخر للمسلمين في أندونيسيا.


واحدة من أهم النقاط التي يمكن أن يلتقي عليها السنة والشيعة فيما لو تم التخلص من تنظيم داعش وتطهير مدينة الموصل من عناصره هي العلاقة مع الأكراد المتطلعين الى دور أكبر ووجود أخطر في ظل التحولات الدولية والإقليمية والصراع من أجل الوجود ومحاولة التأسيس لكيان إقليمي منفصل عن المنظومة الإقليمية التقليدية التي كانت تضع الأكراد وعلى الدوام تحت مطرقة الضغط والتنكيل والمنع من التطلع الى مستقبل مختلف.

الأكراد يتوسعون في الجهات الأربع، فهم في العراق يحكمون إقليمهم الخاص المتكون من ثلاث محافظات ويطمعون في كركوك ويحاولون قضم الموصل، ويتطلعون الى مدن وقصبات عديدة تتصل بإيران وتركيا وسوريا وفي العمق العراقي، بينما يحاولون التوسع في سوريا الممزقة ويضغطون في تركيا ويمارسون عنفا غير مسبوق ضد الجيش التركي برغم مايعانيه المدنيون من إعتداءات حكومية في جنوب البلاد.

يعاني العرب السنة من مشاكل عميقة وعقيمة على مستوى المنظومة السياسية الغارقة في المشاكل، لكنهم يواجهون خطر السيطرة الشيعية المطلقة على بغداد وبقية المدن ذات الأغلبية الشيعية، ويحاولون التركيز على مايشكله التكوين المسلح للشيعة من تحد في مناطق يسيطر عليها داعش، وشارك الحشد الشعبي الى جانب القوات النظامية والعشائر في تحريرها، الرمادي وتكريت والفلوجة وديالى مثلا، لكن لايبدو أن الشيعة سيحكمون سيطرتهم على مناطق السنة البعيدة عن تجمعاتهم السكانية في الوسط والجنوب، ولهذا فإن المشكلة الأكبر قد تتمثل في التوسع الكردي الذي يريد إحكام قبضته على كركوك الغنية بالنفط والتي يقطنها عرب وتركمان وكرد لكن العرب والتركمان هم الأكثر تضررا من الطموحات الكردية في المدينة، ولايبدو أن التركمان لديهم قدرة المواجهة مع الأكراد إلا في حال تحالفهم مع العرب السنة هناك، وواضح أن البيشمركة حققت تقدما لافتا بدعم دولي في مناطق من الموصل كان تنظيم داعش يسيطر عليها وهم يرفضون مغادرتها، بينما تؤكد تقارير وتصريحات نية كردية في ضمها الى إقليم كردستان، وهو الحال الذي ينسحب على مناطق في صلاح الدين وجنوب كركوك وشمال ديالى وشرقها.

بعض القيادات الشيعية الناقمة على التمدد الكردي تصرح بان المناطق المتنازع عليها مع الأكراد عربية وستبقى كذلك وهم مستعدون للقتال من اجلها وعي في الغالب مناطق للعرب السنة الذين يعانون من الحرج في علاقتهم مع الأكراد حيث يرون توسعهم في مناطقهم لكنهم يعانون أكثر من أزمتهم الحالية مع الشيعة، وهذا ماقد يشكل التحدي الأكبر في مرحلة مابعد داعش ويمكن أن يتصوره البعض نوعا من السكون المؤقت حتى تحين لحظة الحقيقة ويجد العرب السنة أن مناطقهم قد أعلنت جزءا من إقليم كردستان وسيكونون بحاجة الى دعم عربي ومحلي من بقية المكونات العراقية، وكذلك الحكومة المركزية وهو مايمكن أن يؤدي الى صراع مسلح بين العرب السنة والشيعة ومعهم التركمان ضد الأكراد.

البرلمان العراقي الجامع لكل المكونات يمكنه أن يلعب دورا حيويا في تحديد ملامح المرحلة المقبلة خاصة وإنه تجاوز مجموعة من المحن الصعبة، وتمكن من فرض إستراتيجية طموحة وإن لم تكن كافية لكنها تصلح لتكون سبيلا لتوضيح نوع العلاقة بين المكونات والتأسيس لشراكة تقفز على الطائفية والعرقية وتضع الأمور في نصابها بخصوص المنازعات على الأراضي، ونوع الفعل السياسي الذي يمارسه الجميع ويجب أن يفهموا أهميته القصوى في جمع العراقيين وترسيخ إيمانهم بالمواطنة، وعدم التشدد في تحقيق المطالب، بل النظر الى المكونات جميعها بأنها صاحبة حق وهي بحاجة الى تأكيد ذلك الحق وفق الدستور والقانون والحوار الجامع.


لايزال المؤتمر الذي عقد في الشيشان في الاسبوع الماضي حول تعريف " اهل السنة والجماعة" يتفاعل في الاوساط الاسلامية في لبنان والعالم العربي، بين مؤيد للمؤتمر ومدافعا عنه وعن المواقف التي اطلقها لمواجهة التطرف وخصوصا لجهة تحديد من هم اهل السنة والجماعة، وبين من يهاجمه بحجة انه يستهدف الجماعات السلفية والسعودية وجماعة الاخوان المسلمين، خصوصا وان احد الداعين للمؤتمر الداعية الإسلامي الحبيب بن علي الجفري (المشرف على مؤسسة طابا ومركزها في الامارات) قد كشف عن الخطوة القادمة بعد مؤتمر "أهل السنة"، وتتمثل بعقد مؤتمر جديد تحت عنوان (منطلقات التكفير السبعة) التي بُني عليها فكر القطبيين -سيّد قطب- ومن تفرع عنهم من القاعدة وداعش".

وهذه المنطلقات هي : 1. الحاكمية، 2.الجاهلية، 3. الولاء والبراء، 4. الفرقة الناجية "العصبة المؤمنة"، 5. الاستعلاء، 6. حتمية الصدام، 7. الخلافة والتمكين".

وأكد الجفري إن ما سبق هي "مصطلحات نُحت غالبها من كلمات وردت في الوحيين ولكنها حرفت في دلالاتها".

ويذكر ان مؤتمر الشيشان قد حضره شيخ الازهر الامام الدكتور احمد الطيب ومفتي مصر السابق الدكتور على جمعة وشخصيات اسلامية اخرى وقد اثار ردود فعل سعودية قاسية بسبب عدم شمول تعريف اهل السنة والجماعة الصادر عن المؤتمر للسلفيين والحركة الوهابية.

كما شن رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين (القريب من الاخوان المسلمين) الشيخ يوسف القرضاوي حملة على المؤتمر ووصفه بمؤتمر ضرار، على غرار مسجد ضرار الذي اقامه المنافقون ايام الرسول محمد.(مع ان الشيخ القرضاوي قد مدح بداية المؤتمر ووجه له كلمة خاصة اشاد فيها بالشيشان ورئيسها).

وكان كتاب ونشطاء سعوديون شنو هجوما قاسيا على مؤتمر "غروزني" بالشيشان والخاص بتعريف من هم "أهل السنة"، لاستثناءه السلفية (الوهابية) من قائمة المشمولين بصفة أهل السنة، ودعا الكاتب السعودي محمد آل الشيخ إلى ترك الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي "ليواجه مصيره" بسبب قرار مشاركة شخصيات مهمة من مصر في المؤتمر.

وقال آل الشيخ في حسابه على تويتر: "ان مشاركة شيخ الازهر بمؤتمر غروزني الذي أقصى المملكة من مسمى أهل السنة يحتم علينا تغيير تعاملنا مع مصر فوطننا أهم ولتذهب مصر السيسي إلى الخراب.. كنا مع السيسي لأن الاخونج والسلفين المتأخونين أعداء لنا وله، اما وقد ادار لنا ظهر المجن في غروزني وقابلنا بالنكران فليواجه مصيره منفردا".

وفي بيروت اعلن تجمع العلماء المسلمين وشخصيات اسلامية اخرى دعمهم للمؤتمر ونتائجه، في حين لم يصدر بيان واضح من بقية القوى والتيارات الاسلامية من المؤتمر.

وقد حاول شيخ الازهر استيعاب الحملة السعودية عليه فأصدر المركز الإعلامي بالأزهر بيانا حول موقف شيخ الأزهر، الدكتور أحمد الطيب من مؤتمر غروزني، غير أن توضيح الأزهر لم يوقف الغضب السعودي.

وقال المركز الإعلامي بالأزهر أن الطيب "نص خلال كلمته للأمة في هذا المؤتمر على أن مفهوم أهل السنة والجماعة يطلق على الأشاعرة، والماتريدية، وأهل الحديث (اي اهل السلف)".

وقد أثار مؤتمر "أهل السنة والجماعة" غضب السلفيين الوهابيين، بعد ان تبرأ من الوهابية، واعتبروه مؤامرة روسية عليهم ونشر اتباعهم اكثر من 100 الف تغريدة ضد المؤتمرين!.

وكان المؤتمر العالمي لعلماء المسلمين الذي افتتحه شيخ الازهر الدكتور أحمد الطيب وعقد في الشيشان قد أصدر عددا من النتائج والتوصيات من أبرزها، أن أهل السنة والجماعة هم الأشاعرة والماتريدية في الاعتقاد وأهل المذاهب الأربعة في الفقه، وأهل التصوف الصافي علما وأخلاقا وتزكية على طريقة سيد الطائفة الإمام الجنيد ومن سار على نهجه من أئمة الهدى. واعلن المؤتمر عن التعاون مع جامعة الازهر وجامع الزيتونة وجامع القيروان لمواجهة التطرف واستثنى المؤسسات العلمية والدينية السعودية من هذا التعاون.

وفي حال تابع الحبيب الجفري نشاطاته في مواجهة الفكر الاخواني القطبي وعقد مؤتمرات جديدة لأهل السنة والجماعة فانه من المتوقع ان تزداد الحملات عليه، وقد عمد بعض الكتّاب الاخوانيين الى بدء حملة للدفاع عن سيد قطب والاخوان المسلمين استباقا لأية نشاطات اخرى.

اذن ستكون الساحة الاسلامية امام معركة فكرية ومذهبية جديدة داخل الساحة السنية بموازاة التصعيد القائم بين ايران والسعودية على خلفية الموقف من اداء فريضة الحج، مما يعني اننا سنواجه ازمات اسلامية اخرى داخل المذاهب نفسها في المرحلة المقبلة.

كريم المحروس(1)
تختلف جذور الحقوق عند المذاهب الفلسفية أو العقائدية. فالإلهيون يرون أن الجذور تنشأ من الإله سبحانه وتعالى، الذي هو واضع الحقوق بلا واسطة، بينما بعض الايديولوجيات الاخرى ترى أن الله سبحانه فوض جعل الحقوق للبشر، كما هي الحال عند بعض المذاهب المسيحية التي ترى أن قيصر فوض من قبل الرب تحديد الحقوق، فهي تـنتهي عندهم إلى الله سبحانه وتعالى بالواسطة لا مباشرة.
وتقسم الحقوق حسب الآراء المختلفة إلى ثلاثة:
الأول: أن الفرد هو الاصل في الحقوق، وأن المجتمع متطفل عليه اضطرارياً أو من جهة الفطرة. الثاني: أن الاجتماع هو جذر الحقوق، وإنما الفرد شيء بسيط في هذا الجهاز العام.
الثالث: أن كليهما جذر الحقوق، فليس أحدهما اصلاً والآخر فرعاً. وإذا تعارض حق الفرد وحق المجتمع تلاحظ مسألة الأهم والمهم، فان لم يكن هناك مهم وأهم فاللازم اتباع التقسيم بين الجانبين أو الاقتراع لترجيح جانب على آخر. وما أشبه ذلك.
ويرى الالهيون أن الغرض من وضع الحقوق وتحديدها، تأمين حالة الفرد بكل أبعاده وعلى الأخص بعداه الفردي والاجتماعي، اضافة إلى بعده الكوني الشامل للدنيا والآخرة. ويشمل الحق بالمعنى المعروض كلاً من الله عز وجل والانسان والحيوان والنبات والجماد، لكن الحق على الله سبحانه ليس بمنزلة الحق على غيره.
هذه البحوث وغيرها من متعلقات الحقوق يستعرضها كتاب (الحقوق) للمرجع الديني الامام السيد محمد الحسيني الشيرازي وهو من أروع الكتب في مجاله، ليس لكونه عرضاً اسلامياً لباب مهم من ابواب العلاقة بين الإنسان وخالقه، بل لأنه الكتاب الذي يذهب إلى تفصيل وقائع الحقوق، ودمج نظرياته بالحقائق المعاشة لدى بني البشر، موضحاً بدقة شؤوناً في غاية الاهمية.
إذ يتطرق في مقدمة الكتاب لتعاريف ومصطلحات مختلفة. ثم يستخلص تعريفا كاملا للحق، وهو عبارة عما يلزم الإنسان له أو عليه فردا أو في المجتمع، فإذا الفرد أيضاً له الحق كالانتفاع من أشجار الغابة وحيوان البر والجو وعليه الحق كحق الله سبحانه وحق نفسه على نفسه وحق الحيوان وحق الجماد. ويعتبر هذا التعريف مبتكرا، لأنه بمعنى أوسع عندما يعتبر الحق شاملا لأربعة أقسام هي: الملك والمنفعة والانتفاع وملك أن يملك.
وفي جانب آخر من مقدمة الكتاب يعرف السيد الشيرازي الحق بأنه: شيء للفائدة أو على الضرر، والأول يسمى حقا والثاني واجباً. مستـنتجا أن القانون يجب أن يتكئ على أحد الثلاث: العدل، أو النصفة، أو الاحسان. لا على القدرة سواء كانت قدرة السلاح أو الرجال أو المال أو الجمال مثلا، فوقـتـئذ لا يحترم القانون ولا ينظر إليه عاقل بمنظار الشرعية.
وتنقسم الحقوق عند الامام الشيرازي إلى حقين:
الأول: الحقوق الفطرية، وهي التي تلائم الإنسان والحيوان والنبات والجماد حسب رتبتهم الكونية، بل يمكن أن يقال بتلك الحقوق لخالق الكون أيضاً حيث أن له سبحانه مكانته الخالقية وتلك المكانة لها حقوقها من الاطاعة والشكر ونحوهما.
الثاني: الحقوق الموضوعية، وهي تلك التي يضعها الإنسان بزعم أنها تطابق الحقوق الفطرية. ويستظهر آية الله الشيرازي أن (الحرية) هي من الحقوق الفطرية، ويتحدث عن تطور الفقه ومدى قدرته على تلبية متطلبات العصر الحديث، ويقول:
إن الحقوق عبارة عن الفطرة، ثم ما لا تصل الفطرة إليه وهي الشريعة، والفطرة وإن كانت متطابقة في الكليات مع الشريعة إلا أن الإنسان حيث لا يكون محيطاً لابد وأن يقف مكتوف الايدي أمام كثير من الأحداث فلا يتمكن من جعل القانون لها بخلاف الله سبحانه المحيط بكل شأن من الشؤون، ولذا نشاهد أن بتقدم العلوم تظهر فلسفة بعض الأحكام مما كان الإنسان لا يدركها في وقت تشريعها.
اما المدارس الأخرى القائلة بان مستند القانون شيء آخر من العدالة أو التجربة أو الاجتماع، فإنهم وإن استدلوا لآرائهم ببعض الأدلة إلا أنها ليست تامة. فعلى سبيل المثال استدل أصحاب مدرسة العدالة بأن الإنسان عادل في طبيعته وهذه العدالة هي مبعث التقنين، واستدل أصحاب مدرسة التجربة بأن القانون هو انعكاس من التجارب، أما مدرسة الاجتماع فرأت أن القوانين تتبع العرف والعادة ولذا تختلف باختلاف الاعراف والتقاليد.
غير أن الامام الشيرازي يتقدم ببحث مسألة في غاية الاهمية، لكنها موضع جدل بين فقهاء الحقوق الإلهيين والماديين، فضلا عن المهتمين والناشطين في مجال الحقوق والقانون. فعلماء الحقوق استدلوا بأن الإنسان ولد حرا ويبقى حرا، ولا يمكن لأحد أن يسلب حريته، بينما الدين الالهي يؤطر بعض حرية الإنسان في مصلحته أيضاً في دنياه أو آخرته، وأن حريته محدودة بحرية الآخرين إذ تقف أمامها، والدولة وغيرها يتوجب عليها أن تحمي هــــذه الحرية، فلا يحق لأحد أن يضر بالآخرين أو أن يسلب حرياتهم وكذلك العكس، ومن هذا المنطلق تكون وحدات كالاقتصاد والسياسة والاجتماع والدولة والعقود وغيرها كلها تابعة للانسان، فالكل يدور مدار الإنسان.
ففي حقل الاقتصاد يكون المعيار (دعه يعمل دعه يسير) وفي حقل السياسة هو حر في نشاطه السياسي كالانتخاب والترشيح إلى أبعد الحدود، وفي حقل الاجتماع له أن يجتمع مع أن يشاء وأن يتزوج ممن يشاء، وفي حقل العقود والتجارة له أن يبيع أو يرهن أو يؤجر أو يستورد ويصدر دون قيود جمركية وما أشبه، وفي حقل الثقافة له أن ينخرط في أية ثقافة، إلى غير ذلك مما يحفظ كرامة الإنسان وحريته الفردية.
وعلى ذلك فوظيفة نظام الحقوق جعل القوانين لحفظ التنسيق بين الافراد الذين يتكون منهم المجتمع. والعدالة هي الاطار الذي ينظم سن قوانين الحقوق والحريات على أساس المبادئ الشرعية والثوابت الدينية.
وفي مجالات النظرية الفردية يرى آية الله الشيرازي أن النظرية الفردية أقرب إلى العقل والمنطق وإلى الفطرة، حسب الأدلة المتوافرة في المقام الشرعي حسب شروط محددة هي:
1 ـ أن يكون حقه، فلا يحق لإنسان استغلال آخر ولو بالاكراه الاجوائي، مثلا: الانتاج حاصل من العمل والعمال ورأس المال والادارة وصاحب المال، فاللازم أن يوزع الربح على الخمسة حسب حقوقهم العادلة في نظر العرف وبذلك لا تتحقق الرأسمالية الغربية، بل الرأسمالية بمعناها الإسلامي حيث قال عز من قائل : (لكم رؤوس أموالكم).
2 ـ أن لا يقع ضرر على الآخرين، وهذا الشرط عبارة عن تحقق الموضوع لأن حق الفرد محدود بحدود الآخرين كما أسلفنا، كما أن حرية كل فرد محدودة بحريات الأفراد الآخرين.
3 ـ تقسيم حقه بين جانبيه الفردي والاجتماعي، فإن الإنسان فردي من ناحية واجتماعي من أخرى، ولذا فاللازم أن يقسم سعيه بين الجانبين، فإعطاء المجتمع شيئاً من سعيه ليس بمعنى أن الاجتماع سلبه حقه أو أن الدولة هي الحالة والاصل والفرد هو المحكوم والفرع، بل بمعنى منح جانبه الاجتماعي حقه أيضاً، وحق المجتمع عبارة عن حفظ النظام وتقدمه إلى الإمام.
4 ـ التكافل الاجتماعي، وهذا يعود إلى الفرد ذاته أيضاً حين عجزه وضعفه، وأحيانا لا يعود إلى نفسه إلا من جهة الضمير والوجدان، فالتكافل الاجتماعي نوع من احترام المجتمع والانسانية.
ولا يستـثـني الإسلام أهمية المجتمع أيضاً، فعلم الحقوق وجد أيضاً لأجل تنظيم المجتمع ووضع الموازين والضوابط، فالحقوق جملة من ضوابط وأحكام تحكم الافراد بما هم مرتبطون بالمجتمع، وضامن اجراء هذه الحقوق الدولة، والدولة ـ حسب نظرية شورى الفقهاء الشيرازية ـ بيد الفقهاء العدول ثم عدول المؤمنين.
ويتناول المرجع الديني كمثال على اطروحته القانونية، البعد الاقتصادي كمثال يطرحه في خصوص العلاقة بين المشرع والمنفذ والقاضي، فعلى المشرع أن يهتم في سنه للقوانين بأمور منها:
5 ـ وجوب سريان القواعد التشريعية أو التاطيرية على كل فعاليات الوحدات الاقتصادية سواء كانت في إطار القطاع العام أو الخاص أو من تعاون أمر القطاعين.
6 ـ وضع القواعد المساعدة لنمو ودوران العجلة الاقتصادية، بحيث يغدو القطاع العام قطاعا مهيمنا على جميع قطاعات وفروع الاقتصاد الإسلامي إذ يفترض أن يلعب الدور الاساسي والرئيسي في عملية التنمية الشاملة، مع ملاحظة عدم الاخلال بحرية القطاع الخاص على حسب ما قرره الإسلام.
7 ـ وضع القواعد المنظمة لحل الخلافات التي يمكن أن تـنشب داخل الوحدات الاقتصادية.
8 ـ فتح آفاق لتطور القطاع المشترك (العام والخاص) باتجاه تحقيق خطط التنمية الإسلامية.
9 ـ ضمان تعبير السياسة السعرية عن محتوى اقتصادي واجتماعي ينسجم مع الطبيعة الإسلامية.
10 ـ توفير مستلزمات البناء للاقتصاد الإسلامي.
ويصل السيد الشيرازي في هذه العلاقة إلى عرض عشرين نقطة مهمة جدا. بينما يفصل بعد ذلك في الحديث حول الدولة وشؤون الحقوق فيها في ما يتعلق بالفرد والمجتمع والضمانات التي يجب أن توفرها الدولة للفرد والمجتمع، وأهمية التزام الحاكم الإسلامي بالنصوص الالهية في تنظيم الحقوق والواجبات في كل المجالات. معتبراً في هذا الشأن أن ثمة حقوقا للدولة باسم (الحقوق العمومية) وحقاقاً أخرى للأفراد والمؤسسات ونحوها. منتقدا في الوقت ذاته الانظمة الحاكمة التي تضع قيوداً وأغلالا تقف حائلة دون اطلاق الحريات والحقوق.

1 ـ باحث في مركز التثقيف الإسلامي ـ لندن.

من القضايا الكبرى التي تعاني منها البشرية في زماننا المعاصر هي التلوث البيئي، وما يتركه من آثار سيئة على الحياة البشرية والمحيط الطبيعي.
ولعل التلوث البيئي أمر من قدم الزمان فهو متعلق بانتشار البشرية وكثرة الحروب والدمار الذي أحدثه الإنسان في الطبيعة، إلا أن المعطيات السلبية للتطور الصناعي والكيمائي والنووي في العقود الأخيرة أبرزت التلوث البيئي كقضية مصيرية ذات أثر خطير على النوع البشري إن لم يتداركها أصحاب القرار في العالم أجمع.

ولقد تجلى الاستشعار العالمي بخطورة هذا التدهور في الوضع البيئي إلى عقد الأمم المتحدة مؤتمر (قمة الأرض) كما اصطلح عليه في ريو دي جانيرو في البرازيل عام 1992، غير أن هذا المؤتمر خيب ظن العديد من المهتمين بالشأن البيئي، حيث لم يخرج المؤتمر إلا بعدد من التوصيات والدراسات ومشروع قُدّرت تكاليفه بنحو 600 مليار دولار لمعالجة التلوث البيئي، ويشك في وجود تنفيذ فعلي لهذا البرنامج، فقد امتنعت بعض الدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة عن إلزام نفسها بشأن بعض مقررات المؤتمر الهامة، بل حدث خلاف واسع في الجهة التي تتحمل القسط الأكبر للتلوث البيئي على المستوى العالمي.
ولقد كتب العديد من المهتمين بهذا الموضوع الحيوي دراسات عدة ومؤلفات كشفت عن مدى خطورة التلوث الذي أفسد البيئة البحرية والجوية والأرضية كما طرحت العديد من الاقتراحات والمعالجات، بينما نجد قلة بل ندرة من العلماء المسلمين ممن تناولوا هذا الموضوع من وجهة نظر إسلامية، على الرغم من الذكر القرآني الكثير لموضوع (الفساد في الأرض) والذي يندرج التلوث البيئي كأحد مصاديقه.
في هذا المجال تبرز الدراسة الفقهية التي كتبها المفكر الإسلامي والمرجع الديني السيد محمد الشيرازي كمساهمة مطلوبة سدت فراغاً مهماً في المكتبة الإسلامية. وقد ولج سماحة السيد محمد هذا الموضوع ضمن موسوعته الفقهية الفريدة، والتي بلغت أكثر من مائة وخمسين مجلداً. وهي تشكل أكبر موسوعة فقهية استدلالية في عصرنا الحديث، تناول فيها مختلف أبواب الفقه التقليدية، إضافة إلى مجلدات عديدة خصّصها للقضايا المعاصرة مثل الاجتماع والإدارة والبيئة والسياسة والاقتصاد والمرور والقانون والطب وبحوث المستقبل والحقوق وعلم النفس.
المستوى العلمي للمؤلف
يعد سماحته واحداً من أبرز الفقهاء المعاصرين. ونظراً للجهد العلمي البالغ الذي بذله المؤلف في موسوعته الفقهية والتي ابتدأها من أوائل الخمسينات ولا يزال يتابع تأليفها فإنها أصبحت موضعاً ومرجعاً للعلماء والباحثين، بل صرح عدد من كبار الفقهاء المحققين بأعلمية سماحته بناءً على تأملهم وبحثهم في هذه الموسوعة الشاملة.
أبرز من صرّّح بذلك المحقق الفقيه السيد الفاطمي الأبهري وهو من كبار أساتذة الحوزة العلمية في قم حيث قال - بعد الإشادة بموسوعة الفقه وتباحثه مع الإمام الشيرازي - : (أصدق شاهد بشرط الإنصاف وترك الاعتساف على كونه أعلم علماء العصر وفقهائهم قطعاً).
كما قال الفقيه السيد عبد الله السبستري: (من خلال مطالعة (موسوعة الفقه) و(الأصول) لسماحة آية الله العظمى الحاج السيد محمد الشيرازي (مد ظله العالي) فإن أعلميته عندي محرزة).
بل قال عنه الفقيه آية الله إبراهيم المشكيني: (إنه نابغة العصر).
وهناك العشرات من التقاريض المادحة لهذه الموسوعة من الفقهاء والعلماء. ولأهمية هذه الموسوعة فقد ترجمت بعض أجزائها إلى عدة لغات، كما اعتمد مجلس القضاء الأعلى في باكستان المجلدات الخاصة بالقضاء في الموسوعة كأحد المراجع الأساسية في القضاء الباكستاني. الجدير بالذكر، أنه نظراً للأفق الواسع لفكر الإمام الشيرازي، والذي بلغت مؤلفاته رقماً قياسياً بما يزيد على الألف وسبعين كتاباً وكتيباً؛ فقد تناول فكره بالتحليل عدد من الكتاب والدارسين، من أبرزهم الدكتور أياد موسى محمود الباحث في جامعة  ***  في بريطانيا، حيث ألّف كتاباً بعنوان (دراسات في فكر الإمام الشيرازي). كما تطرح نظريات الإمام الشيرازي في العديد من المؤتمرات الفكرية الإسلامية في العالم.
إن هذه المكانة العلمية أهّلت سماحته لأن يكون مرجعاً دينياً لملايين المسلمين في العالم.
يقول الدكتور علي نوري في مقالة له عن شخصية الإمام الشيرازي: (ملايين المسلمين يرون في هذا المرجع ما لم يروه في الآخرين من الانفتاح والتعايش مع العلوم المعاصرة والحداثة، ونظرة إلى قائمة مؤلفات الإمام الشيرازي، تبين أنه لم يترك أي مجال من المجالات التي يهتم بها الإنسان المعاصر من دون أن يشرح موقف الإسلام حوله).
إطلالة على الكتاب
صدر الكتاب عن مؤسسة الوعي الإسلامي للتحقيق والترجمة والنشر في بيروت في257 صفحة بالحجم الكبير، غير أن هيئة محمد الأمين (صلّى الله عليه وآله) في الكويت أعادت طباعته بغلاف يحمل حلّة زاهية تعكس مناظر للطبيعة الخلابة التي يفترض أن يتمتع بها البشر في حياتهم، بينما ثنايا الكتاب تجعلك تعيش عمق الأزمة البيئية التي شوهت مواقع عدة في العالم.
يتميز الكتاب بأسلوب علمي شيّق واضح كما هو منهج المؤلف في الأجزاء الجديدة من موسوعته، فعلى الرغم من أن الكتاب ينتمي إلى الموسوعة الفقهية إلا أن الملاحظ أن الكاتب يخاطب به الشرائح المثقفة الحديثة، والتي يصعب عليها لغة المصطلحات الفقهية التي كان المؤلف يستخدمها بكثرة في أجزاء الموسوعة ضمن السياق التقليدي للفقه.
يقول سماحته في مقدمة الكتاب (الفقه.. البيئة): ذكرت فيه مجموعة من المسائل التي تتعلق بموضوع البيئة في المنظار الشرعي والعلمي أشرنا إليها بإيجاز لتكون إلماعاً إلى هذا الجانب المهم، عسى أن تكون مقدمة لكتابات أشمل في هذا المضمار).
ولذا فإن هدفاً أساسياً آخر للكتاب علاوة على عرض أزمة البيئة ووجهة النظر الإسلامية تجاهها هو حث المؤلفين الإسلاميين لخوض البحث في هذا المجال.
يبدأ الفصل الأول كعادة الفقهاء والمحققين في تنقيح مصطلح البيئة ومعناها الشامل. ثم ينتقل في الفصول الأخرى إلى نظرة الإسلام العامة للبيئة ويتدرج في استعراض مشاكل البيئة في صورها المختلفة مثل: التوازن البيئي، التلوث البيئي، المخلفات الصناعية، التلوث الصوتي، التلوث الضوئي، النظم البيئية، تلوث البحار، التلوث الغذائي، الإشعاعات الذرية، أضرار المبيدات الكيماوية، طبقة الأوزون، الإسراف في صوره المتعددة وآثاره في التلوث.
الجانب الفقهي في المعالجة
على الرغم من استعراض المؤلف للقضايا المثارة في الموضوع البيئي، وذكرها باستفاضة شارحاً لها ومستدلاً بإحصائيات واسعة، إلا أن المنهج الفقهي هو الذي يحكم طبيعة تناول تلك القضايا. فهو تارة يستعرض موضوع البحث بصفة تفصيلية ثم يستتبعه بالحكم الشرعي المتعلق به. فنرى المؤلف على سبيل المثال بعد أن استعرض أقسام تلوث الهواء، نراه يطرح رأيه الفقهي قائلا: (اللازم على الحكومات والجمعيات والمؤسسات والأفراد حماية الهواء من الملوثات وإيصال نسبة التلوث إلى القدر الطبيعي الذي لا يضر بصحة الإنسان).
ثم يذكر بعض أوجه مكافحة التلوث وفقاً لما توصل إليه علماء البيئة، ويعقّب ذلك بذكر الآيات والأحاديث التي يستدل بها لهذا الحكم الشرعي.
إن المعالجة الفقهية ليست عملاً فنياً صرفاً فقط، ولكن كونها تنطلق من الرؤية
الإسلامية القائلة بأن الإنسان هو محور هذه الأرض، وإن كل ما عليها هو مسخر له، بعكس التكييف العملي للحضارة المادية الحديثة بجعل الإنسان آلة تستخدم في التقدم الحضاري خدمة لطبقات معينة تستأثر بالخيرات، تاركة أكثرية البشر تعيش أتون الأزمات، لذا فوفقاً لهذه الرؤية يستخلص ويختار المؤلف ما ناسب من حلول سبق أن تقدم بها علماء البيئة وفقاً لمدارسهم العلمية والفكرية.
وينبغي أن نشير إلى أنه نظراً لندرة المعالجة الفقهية لهذا الموضوع الحيوي، فلا يوجد في الكتاب المناقشات الفقهية المقارنة والتي تميزت بها مجلدات موسوعة الفقه في المجال التقليدي والتي أشبعها المؤلف تحليلاً ومناقشة لأراء الفقهاء ومحاكمتها وفقاً للمنهج الاستدلالي.
ولعل الجيل القادم من فقهائنا أقدر على المناقشة المقارنية، انطلاقاً من هذا الكتاب والكتب الأخرى التي نرجو أن يسهم فيها علماؤنا الباحثون.
إسرائيل + الحروب = أعداء البيئة
يقول المؤلف: (تعتبر إسرائيل من أهم مصادر تلويث مياه البحر المتوسط بالزئبق، وقد تناقلت وكالات الأنباء أخباراً مفادها أن شركة حيفا للكيماويات تقوم ومنذ سنوات بدفن كميات كبيرة من مخلفات الزئبق في البحر الأبيض المتوسط وقد حاولت منظمة السلام الأخضر منعها عن ذلك لكنها لم تعتن بتحذيرات هذه المنظمة).
ويقول أيضاً: (المعروف أن إسرائيل لا زالت تمتنع عن التوقيع على اتفاقية حظر دفن المخلفات الصناعية).
كما يشير المؤلف إلى الآثار السيئة التي تتركها الحروب في إفساد البيئة ويشير على سبيل المثال إلى الآثار السيئة للغزو العراقي للكويت في البيئة الجوية والبحرية، وما تسبب ذلك من أضرار محدقة للشُعُب المرجانية بسبب وصول النفط إليها وهلاك العديد من الأحياء المائية، ويذكر أن الكويت كانت تصدر خمسة آلاف وخمسمائة طن سنوياً من الروبيان فقط، إلا أنها توقفت عن ذلك بعد الغزو.
و يشير في فصل خاص عنوانه (التلوث نتيجة الحروب) إلى أن الحروب تفسد البحار والأراضي والأجواء بالإضافة إلى قتلها الإنسان أو جرحه وإعاقته، وإلى هدرها الهائل للطاقات والأموال والإمكانات.
العلاقة بين الإسراف والتلوث
يعتبر المؤلف أن الإسراف عاملاً أساسياً في تلويث البيئة عبر استنزافه لموارد البيئة من جانب والآثار السلبية المستتبعة لذلك الإسراف كالمخلفات الواسعة التي يتركها من جانب آخر. ثم يستعرض المؤلف صوراً من الإسراف في المياه والطعام والشراب والجنس، بل حتى الإسراف في العقوبة والتشفّي كما نلاحظه في الحروب العنصرية التي عرضت البيئة للدمار والتلف كما حدث في البوسنة والهرسك وغيرها من البلدان التي وقعت فريسة التطهير العرقي، ولأهمية موضوع الإسراف في المياه، يقول:
(يؤدي سوء استخدام الري إلى إصابة مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية بخطر التملّح والتغدّق بما يقلل من قدرتها الإنتاجية في مرحلة وإصابتها بالعقم الإنتاجي في مرحلة أخرى، وقد قدّر بعض العلماء أن العالم يفقد سنوياً بين نصف المليون إلى مليون فدان نتيجة لتملح التربة أو تغدّقها).
وفي جانب المعالجة يقول المؤلف: (هذا ويجب القضاء على الإسراف عبر تعديل أنماط الاستهلاك وتعديل النظام الاقتصادي بحيث لا يكون استهلاك الموارد على حساب الأجيال القادمة).
الحل الإسلامي الواسع
في خاتمة الكتاب وبعد أن أشبع القارئ وعياً وإدراكاً لمخاطر التلوث البيئي، فإنه يتساءل: فما هو الحل؟ فيجيب:
يبدأ الحل أولاً: بالوعي، فلابد أن تعي البشرية خطورة التلوث.
ثانياً: عليها الالتزام بالقوانين والسنن التي سنّها الله في الكون والتي أوصلها إلينا عبر تعاليم الدين الإسلامي الحنيف بالشكل الأشمل والأكمل.
ثم بعد ذلك تأتي الخطوة الثالثة: وهي الوقوف وقفة حازمة وقوية أمام المشاريع والفعاليات التي تنتج التلوث، وهذه الوقفة تتوقف على مقدار ما تبديه البشرية من تعاون وتآزر لوقف هذه المشاريع الخطرة، وتقع مسؤولية هذه الخطوة على الأمم المتحدة عبر إصدار قانون دولي لحماية البيئة، ويكون إلزامياً بحيث تدعمه قوة تعمل على الحفاظ عليه.
أما الخطوة الرابعة: فهي مكافحة جذور التلوث سواء كان مصدره دولة أو مصنعاً أو شركةً أو فرداً.
لقد حاولت أن أجري استعراضاً سريعاً لبعض محتويات الكتاب راجياً أن لا أكون قد أثقلت كاهل القارئ بهموم البيئة علاوة على همومه الخاصة والعامة، ولكن عذري هو أن هذا الهمّ البيئي هو مما ينبغي الالتفات إليه أفراداً وحكومات، نظراً لأهميته في الحفاظ على أرضنا الجميلة، والتي نحن جميعاً مسؤولون عن إصلاحها وإبقائها تنبض بالخير والبهجة والمسرة حفاظاً على وجودنا وراحتنا وراحة الأجيال القادمة، متذكرين نعم الله علينا حيث يقول جل وعلا:
(أَمَّنْ خَلَقَ السَّماوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) سورة النمل: 60.

قد ذكر جمع من أعاظم الفقهاء أن لا حدود إلاَ في زمان الحضور ، ولعل يلزم أن تؤجل الحدود إلى سنوات وذلك حسب قاعدة ( الحدود تدرء بالشبهات ) و( لا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ) . ويحلَ محلها التأديب بالسجن والغرامة والحرمان عن بعض الحقوق كحق السياقة وما أشبه حتى لا ينتهي الأمر إلى الفوضى والهرج والمرج وفي كل ذلك يقتصر على اقل قدر ممكن حيث إن الأصل في الناس الحرية كما إن الأصل احترام الأموال والحقوق ، ويعيَن ذلك القدر ( شورى الفقهاء ) بأكثرية الآراء ، بعد

التشاور مع الخبراء من العلماء والأخصائييَن ورؤساء الأحزاب والنقابات وغيرهم - كلَ فيما يرتبط به - فاللازم أن يعمل بحيث لا يتهم الإسلام إطلاقاً لقاعدة التزاحم و( الأهم والمهم ) ويحفظ كيان الدولة ، ولا يصل الأمر إلى ( الهرج والفوضى ) ولذا لم يطبق الرسول ( ص ) وعلي ( ع ) كثيراً من الحدود - كما ذكرناه في كتاب الدولة الإسلامية وقد تكرر منهما ( ع ) ذكر لفظ ( لولا ) و( لانهدم عسكري ) وما أشبه ذلك، ولا يجري الحد فيما لو كانت الأجواء غير إسلامية ، فإذا لم يكن الحكم إسلامـي والإقتصاد الإسلامي والسياسة الإسلامية وما أشبه مطبَقاً لا يجري عليه الحـد فيما لو سرق أو جرح مثلاً ، نعم للحاكم تأديبه بما يراه مناسباً . والمعـيـار فــي كـون الأجواء إسلامية ليس هو الإعلام والشعارات بل هو تطـبـيـق غالـبـيـة القــوانـيـن الإسلامية في السياسة والإقتصاد والإجتماع والمعاملات و.. بحيث يصدق عـرفـاً أن ( قوانين الإسلام ) مطبَقة في هذا البلد .
وللحاكم الشرعي حق العفو فيما لو كانت هناك مصلحة أهم كمـا عـفـى الرســـول الأعظم ( ص ) عن أهل مكة وعن بعض من وجب عليه الحد . وكمــا عـفـى الإمـام أمير المؤمنين ( ع ) عن أهل البصرة وعن بعض من وجب عليه الحد . والحـاكـــم - بمشورة مع سائر الفقهاء - يقوم بتشخيص الأهم في صورة التزاحم بـيـن مصـلـحة اجراء الحكم وبين مفسدة تأجيج نار الفتنه أو تشويه سمعة الإسلام مثلاً .
الاقليات في الاسلام

الطوائف التي تشتمل عليها الدولة الإسلامية ، تنقسم إلى ثلاثة أقسام :
أ- طوائف إسلامية مختلفة في بعض الخصوصيات .
ب- طوائف غير مسلمة ولكنها كتابية .
ج- طوائف غير مسلمة وغير كتابية .
فالطوائف المسلمة : لها وعليها ما قرر في الإسلام ، ولا يحق للجهة الحاكــمــة أن تضطهد الجهة الأخرى ، إن كانتا مختلفتين في المذهب ، ولهم الرجوع في أحوالهم الشخصية وشؤونهم العبادية وشبهها إلى قضاتهم وعلمائهم حسب ما قرره الإســلام ، والكتابيون وهم ( اليهود ) و( النصارى ) و( المجوس ) يعامل معهم معاملة أهل الذمة فهم في ذمة الإسلام ، لا يعتدى عليهم ، ولا يراق لهم دم ، ولا يباح لــهــم مــــــال ولا يهتك لهم عرض ، ومن اعتدى عليهم عاقبه الإسلام ، بما هو مقرر في الحقوق والقضاء ، ويعمل معهم حسب قانون الإلزام ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم .
حقوق المرأة في الإسلام

أما بالنسبة إلى المرأة، فإننا لا نجـد بين جميع الأديان والقوانين الوضعية من منح للمرأة الحرية وحفظ حقوقها كالدين الإسلامي الحنيف.
فقد أغرت الحضارة الغربية المرأة وأخرجتها من البيت إلى الشارع وأفقـدتها أنوثتها بعد أن اشتغلت بالأعمال الشاقة والخشنـة.
وكذلـك دفعتـها لأن تبيـع كرامتـها لشركات الإعلان والجنـس والموضـة، وما شـابه ذلك، بينما يـجِّل الإسلام المرأة سـواء كانت بنتاً أم زوجة أم أختـا أم أُمّاً، ووضعهـا فـي مكانتها اللائقة التي تناسبها.
وفي ظلّ الإسلام اشتغلت المرأة في كل الأعمال التي تناسب طبيعتها ولا تتناقض مع أنوثتها، فكن خطيبات ومؤلفات ومرشدات وأئمة جمـاعة للنساء في الصلاة.
وكما فعل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يمكن أن نُوجد مساجد وحسينيات ومدارس ومكتبات خاصة للنساء.
ويمكن للمرأة أن تنشئ الجمعيات الأسرية وجمعيات الدفاع عن حقوق المرأة وكـذلك الجمعيات الإرشادية التي تقوم بإرشاد النسـاء اللواتي هنَّ بحاجة إلى التوجيه والإرشاد، ومـن وظائفها حل المشكلات الـتي تعاني منها النساء في مختلف نواحي الحياة الاجتماعية والعملية والأسريـة. هذا من موقف الإسلام.
أما موقف الغرب فهـو دفـع النساء إلـى التحلل والخلاعة، والى ممارسة أنواع المفاسـد وأنواع الأعمال المعيبة التي لا تتناسب مع شرفها وكرامتها.
حقوق الانسان في الاسلام

إن الإسلام سبق القوانين الوضعية في الزام الدولة بصيانة الحقوق الحيوية لكل إنسان ، وهي : حق الحياة وحق الحرية الشخصية وحق الملكية الخاصة وغيرها فقد قال سبحانه بالنسبة إلى الحق الأول : ( من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ) ، وفي رواية : (من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه آيس من رحمة الله ) ، وقد قرر في الإسلام القصاص والدية حتى في الغمز بالكف ونحوها . وأما حق الحرية الشخصية أي أن يكون الإنسان آمناً على حريته ، فلا يحبس أو يعتقل أو تحدد أقامته أو ما أشبه ذلك من حقه في كل حرياته إلا في الموارد المنصوصة عليها في القرآن والسنة المطهرة فذلك واضح لكل أحد ، وقد ورد في ذلك متواتر الروايات ، وقد اشتهرت قاعدة : (الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم ) بل قامت الأدلة الأربعة في الشريعة الإسلامية على ذلك.
حكم السارق

يمكن للفقهـاء أن يجمِّدوا حكم السارق إذا كان في ذلك أثر سلبي علـى سمعة الإسلام، فيختارون حكماً بديلاً عن قطع اليد لتأديبه، مثل سجنه لمدة عام أو أخذ مقدار من المال أو نفرض عليه شكلاً من أشكال الحرمان.
مثلاً يتم حرمانه من حـق الانتخاب لمدة من الزمن أو يمنع من قيـادة السيارة أو ما أشبه ذلك من عشرات الحقـوق الأخـرى، هـذا الأمـر مرتبـط بالفقهاء وبتشخيصهم وبكشـف البدائل.
وقد قال بعض الفقهاء بعـدم إجراء الحدود في عصر غيبة الإمام المعصوم(عليه السلام).
على أي حال: فالمجرم يجب أن يؤدَّب، وهذا متفق عليه بين الفقهاء، أما كيف يتـم تأديبه، فهذا يشخص
من قبلهم، فالذين يقولون بإجراء الحدود في عصر غيبة الإمام المعصوم(عليه السلام) يضعـون شروطاً صارمة، فالسارق لا تقطع يده إلاّ بشروط كثيرة.
إن قطع اليد لا يتم إلاّ بتوفر الشروط.، فحسب تتبعي للكتب الفقهية هنـاك أكثر من أربعـين شرطاً لقطـع اليـد ولذلك لم تقطع من صدر الإسلام حتى عهد المعتصم العباسي إلا ثمانية أيـدي، ويعود السبب في ذلك إلـى قلّة الجريمة فـي الدولة الإسلامية، بسبب القوانين الاقتصادية السارية، فقـد سن الإسلام قانون حيـازة المباحات: (الأرض لله ولمن عمرها) ،كما ورد في الحديث الشريف.
وعلى فرض افتقار أحد المسلمين للمال، فإنه سينال نصيبه من العيش من بيت مال المسلمين.
الجواب الثاني: إذا كـان قطـع يـد السارق سبباً للدعاية المغرضة ضد الإسـلام، والقـول بأنـه دين لا يعرف الرحمة والشفقة وما أشبه ذلك، فإنّ ذلك من شأنه تأجيل العمـل بهـذا القانـون فقـط دون سائر العقوبات، حتى يتم توعية الناس بأغراض هذا القانون، والعمل بقانون آخر يعتمده الإسلام فـي تشريعه وهو(الأهم والمهم )، فـإذا كان تطبيق عقوبة قطع يد السارق ـ مثلاً ـ موجباً لإهانة الدين الحنيف ولما كانت سمعة الإسلام أهم من تطبيق هذا القانون الجزئي، فإنه من الممكن تأجيل هذا الحكم للوقت المناسب، كما ورد في مضمون الرواية: (الامتناع عن إجراء قانون الحد والقصاص في بـلاد الكفر) ، ولعل السبب هو الحفاظ علـى سمعة الإسلام وعدم فسح المجـال لأعداء الدين بترويج الدعايات ضد الإسلام، فيمكننا حينئذ استبدال الحد الشرعي ـ قطع اليد ـ بالعقوبات التأديبية كالسجن أو الغـرامة أو ما أشبه ذلك، وهذا لا يعني أن نعطل جميع العقوبات الإسلامية أو نسرع في تأجيل العمل بالعقوبات الإسلامية أو استيراد قانون للعقوبات من دول الشرق والغرب أو تسن عقوبات حسب أهوائنا.
الفرق بين العدالة والمساواة

العدالة والحرية تنافي المساواة بين الرجل والمرأة.
ولتوضيح جانب المنافاة بين العدالة والمساواة نقول : العدالة هي إعطاء كل ذي حق حقه، والمساواة إعطاء بدون تفريق، فإذا كان عندنا حَمام وعصفور، وأعطينا العصفور بحجم ما يحتاجه الحمام، فيكون ذلك مساواة ؛ ولكن هذا ليس منطقياً، فـانّ العصفـور سيموت من التخمة، وإذا أعطينا الاثنين مقدار ما يحتاجه العصفور، فإنّ الحمام سيموت من الجوع.
إذن لابد أن نفرِّق في كمية الطعام بين الحمام والعصفور، حـتى يشبع الاثنان ولا يتضررا سواء فـي الكثرة أو القلّة، ولتوضيح جانب المنافاة بين الحرية والمساواة نقول : في مجال القانون لا يمكن أن نعتبر الناس جميعاً متساويين في كل شيء، لنضرب مثالاً على ذلك.
الرجل السنّي يستطيع أن يطلّق زوجته ثـلاث مرات في مجلس واحد فتحرم عليه، فلا يستطيع أن يعود إليها مرة أخرى، بينما الرجل الشيعـي لا يستطيع أن يطلّق زوجته ثلاث مرات في مجلس واحد، فهذا الطلاق يعتبر طلاقاً واحداً فلا تحرم عليه حرمة أبدية.
فإذا أردنا أن نضع قانونـاً يسـاوي بينهمـا، فهو خلاف لحرية أحدهما، وإذا فرّقنا فليس مساواة وكذلك يجري الأمر على بقية المذاهب والأديان من المسيحيين واليهود وغيرهما، فـلا يمكن أن نضع قانوناً يساوي بين الجميع في مثل هذه الأمور المختلف عليها، والناس أحرارٌ في اختيار المذهب والمسلك الذي يريدونه.
مثال آخر: إن الشيعة يشترطون في الطلاق شاهدين عادلين، بينما لا يشترط السنة ذلك، فإذا قلنا بوقوعه بدون شاهد يكون خلافاً لحرية الشيعة، وإذا قلنا بعدم وقوعه بدون شاهدين يكون خلاف لحريـة السنة، ولو قلنا نعمل بقانون آخر، كشاهد واحد، فيكون خلافاً لحرية الاثنين، وبالتالي لا مجال للمساواة فـي مثل هذه الأمور.
وهناك مجالات كثيرة في تطبيق المساواة.
منها: المساواة في العقوبة: فعقوبة الزنا تجـري على الشريف والوضيـع بنفس الكيفيـة، وعقوبة السرقة تنفذ على السارق سواءاً كان وزيراً أو إنساناً عادياً.
المساواة في الأمور النظمية كحركة المرور، فالجميع يجب أن يتقيد بإشارات المرور حفاظاً على نظم المجتمع.
وفي أمـور التعليم والصحة العامة وتشكيل الأحزاب والجمعيات والنقابات، فهذه الأمور يجب أن يراعى فيها جانب المساواة.
ولو إن رجلاً شيعياً طلّق زوجته السنية ثلاثاً في مجلس واحد أو العكس، فكذلك هنا نجري قانون(الإلزام) وتحرم الزوجة مؤبداً. و قانـون الإلزام(ألزموهـم بما التزمـوا به) وهـو طريـق معبّد لحل مشاكل الأقليّات الدينية فـي البلاد الإسلامية، حيث يلزمون بما التزموا به، وإلى جانب هـذا القانون هناك قوانين أخرى ذات أثر كبير فـي حل مشاكل الناس من طوائف أخرى، مثل قانون(العسر والحرج) قال تعالى: (ما جعـل عليكم فـي الدين من حرج) وقانون(الضرورات) وقانون(التيسير) حيث ورد في القرآن: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر).
ومن مصاديق قانون التيسير عنـدما يكون اثنان من دينين مختلفين، فيكون الصحيح اتباع طريق آخر.
مثلاً: في لبنان رجل مسلم تزوج من امرأة مسيحية أو رجل مسلم شارك رجـلاً مسيحيا في التجارة أو في أي عمل آخر، إذا وقع النزاع واللجوء إلـى الفراق، فنحن هنا نتبّع قانون(الإلزام)، إن كان مناسباً وإلاّ فإننا سنتبع القوانين الأخرى.
مقياس التقوى في الإسلام

الإسلام يساوي بين الجميع فـي الحصول علـى العلم والمال والقدرة والمنصب والسلام وما أشبه ذلك.
فرفع لواء الدعوة إلى القومية العربية، يوجب ظهـور التعصب القـومي عند الآخرين، فلا يستغرب عندما يثور الأكراد وهـم يطالبون بحقوقهـم، لأن الدعوة إلى القومية السبب فـي ذلك، لأنهاّ دعوة لا تتفق مع مقاييس إسلامية ولا عقلية ولا واقعية.
فالإسـلام يقول: (إنا خلقنـاكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم)، فالمقياس في الأفضلية هو التقوى، لذا كان بلال الحبشي وصهيب الرومـي وسلمان الفارسي وأبوذر العربي، سواسية في نظر الإسلام، وإني لأتذكر إبان الحرب العالمية الثانية لم يكن لهذه النعرة من وجود. إذ ليس هناك من يقول هذا عربي وهذا فارسي وهذا كردي وهذا تركي وما أشبه ذلك، فالكل كانوا إخوة يعيشون فـي ظل الإسلام الحنيف ويتزاوجون فيما بينهم، ويشتركون في التجارة ويعملون معاً في إنجاز المشاريع وحتى في أمور الدفاع عن البلد كانوا يداً واحدة.
أما ثانياً: فان القومية خـلاف العقل، لأن التمايز الأصلي في كفاءة الإنسان وقـدراته وليس في لسانه وما ينطق أو لون بشرته أو عرقه، فهذه أسس مادية للتمييز لا قيمة لها مطلقاً.
أمّا ثالثاً: فالواقعية تقتضـي أنّ يعيش الإنسان بجنب أخيه، لأنّ الإنسان بحاجة إلـى أخيه الإنسان، فالعربي يستعين بالكـردي، والتركي يستعين بالعربي، وهكذا كانت الحياة وستبقى.
وقد استطاعت أوربا التخلص من النـزعة القومية بعد تــجربة مريرة جرّت عليها الوبال، فالحروب التي اشتعلت بين فرنسا وبريطانيا كانت وراءها دوافع قومية.
واكتشفوا إن موروث القومية هو الدمـار والخراب، الأمر الذي جعلهم يغيرون رأيهم في القوميـة، فألغوها من جذورها، وأنتم الآن أخذتم التجربة على علاتها بعد أن تركها أصحابها، وبعد أن ثبت فشلها، وعلى قول المثل: (من جرّب المجرب حلّت به الندامة).
الاسلام رسالة كاملة

لقد بعث الله سبحانه وتعالى النـبي(صلّى الله عليه وآله وسلّم) برسالة الإسلام كاملة وليس فيها أي نقص، لأنّ النقص يأتي من الناقـص، وإن الله سبحانه وتعالى منزه عن النقص، فكل ما يفعله أيضاً منـزَّه عن النقص، لذا فالإسلام ليس بحاجة إلى من يكمله لانه يتضمن الإسلام قوانين ثابتة ودائمة، وهي نصوص واردة نحو: (حلال محمد حلال إلى يوم القيـامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة).
وهناك قواعد عامة جعلها الإسلام للمسائل المتجددة والمتطورة، تنسجم هذه القواعد مع اختلاف الزمان والمكان.
مثلا: في باب المعاملات: قال الله سبحانه وتعالى في محكـم كتابه: ( فلكم رؤوس أموالكـم لا تظلمـون ولا تظلمون)، فالإسلام بهـذا النص يضـع ميزاناً لتملك رأس المال.
يقول الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): (لكي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم)، وهي قاعدة عامة في كل زمان ومكان، يقول الله عز وجل: (أحل الله البيع وحرم الرِّبا)، وقال عز من قائل: (تجارة عن تراض)، وقال أيضـا: (أوفوا بالعقود)، وقال أيضاً: (فرهان مقبوضة).
فالدين الإسلامي الحنـيف لم يتـرك فراغاً في حياة البشرية، فهو لا يحتاج لغيره، وقد أرجع علماء الإسلام جزئيات الحياة إلـى هـذه القواعد العامة، كإرجاع الصغرى إلى الكبرى في كل باب.
لذا أرى من الضروري تشكيل لجنة من علماء السنة والشيعة يقوم كلٌّ علـى اجتهـاده ولاتباعه باستنباط الأحكام الجزئية من تلك القواعد الكلية وتقديمها للدولة، كما تفعل اليوم بعض الحكومات الكبرى كبريطانيا، مثلاً.
فبالقضاء البريطاني مثلا يستند في إصدار قراراته على العرف والعادة، حيث يجلس القضاة في مجلس القضاء ويستنبطوا أحكامهم علـى أساس تلك القاعدتين.
وقد كسب القضاء، بذلك رضا الناس على الأغلب خلال الفترات المنصرمة من تأريخـه، والسبب هو أنه ينطلق نسبياً من المصلحـة العامة وليـس من المصلحة الخاصة، فالذي يخسر القضية لا يخسرها بسبب عوامل ذاتية، فالناس يعرفون أن القاضي لا يظلم، وإنما يحكم على أساس العرف والعادة، كمـا وإن الخاسر للقضية صحيح أنه خسـر نظراً للمصلحة الخاصة، لكنه ربح كثيراً بالنظر إلى المصلحة العامة، فقد أخـذوا منه الحق ليعطوه لأصحابه.
الأرض لله ولمن عمرها

لو أجري قـانـون: (الأرض لله ولمن عمّرها)، لساد الرفاه في المجتمع، ولانظَمَّ ملايين الناس إلى الإسلام، فبهذا القانون جعل الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الأرض بمنـزلة الهـواء والماء ونور الشمس، فكما أن هـذه الثلاثة مباحة للجميع كذلك الأرض.
وهـذا واضـح: لأنّ خالق الماء هـو نفسه خالق الأرض.
والذي جعل الماء هبة للناس جعل الأرض أيضاً هبة، والذي جعل نور الشمس يستنير به الجميع جعل الأرض سكناً للجميع.
ولأجل هذا انشدَّ الناس إلـى الإسلام فـي القرون الماضية، ثم جاء البعض بعـد ذلك ووضع هذه الأرض
ـ التي حباها الله للجميع ـ ملكاً للدولة، فأُخذ المال من الناس، ومنع البناء إلا بأخذ الرخصة والإجازة، ثم طولب الناس بأن يقيدوا أملاكهم عبر الروتين الإداري، هذه الأمور لم تكن موجودة يـوم ذاك، ولو طبق حديث الرسـول الأكرم (صلّـى الله عليه وآله وسلّم) : (من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به) لالتفّ الناس حول الحكومات ونصرتها.
ومعنى الحديث الشريف أن من يسرع إلى استخراج الملح فهو المالك له ولاحقّ لغيره مزاحمته في ذلك.
ومن يسرع إلى منجم الذهب ويستخرجه فهو أحق به لأنه سبق الآخرين إليه.
ومن يسرع إلـى منجم الألماس فهـو المالك له لأنه أسبق الناس إليه.
والشرط الذي وضعه الله سبحانه وتعالى هو (لكم) فليس هناك استثناء ولا تفضُّل ولا ميِّزة لقسم على آخر.
وبعبارة أخرى هذه كلّها لمن سبق في إطار قوله تعالى(لكم) فلا يحق لأحد ـ تاجراً كان أم دولة ـ حيازة الكل.
أما الحكومات الحالية فانها تقول كـل شـيء ملك للدولة، وإنها صاحبة المال والحـق فـي التصـرف، لذا نقول لكم ارجعوا إلى منهج الإسلام ووضّحوا حقيقة الإسلام في المناهـج الدراسية، حـتى يعرف المسلمـون سرّ تقدم الإسلام.
وإذا لم تفعلوا ذلك، فإنّ المسلمين سيذهبون لا محالة إلـى الغـرب ـ فضلاً عـن عدم دخول الغربيين في الإسلام ـ لأن الغرب يمنح قدراً مـن الحـرية ويعطي قسطاً من العدالة الاجتماعية.
الأمة الإسلامية امة واحدة

يقول القرآن الكريم: (إن هـذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فأعبدون).
وإحـدى عـلائم الأمة الواحدة إزالة الحدود الجغرافية بين البلاد الإسلامية، ومنذ عهـد النبي الأكرم) صلى الله عليه وآله وسلم)، وحتى قبل خمسين عاماً لم تكن هناك أية حدود بين بـلاد المسلمين، وان هذه الحدود من صنائع الغرب لتمزيق المسلمين.
وأنا أتذكر أنّ الناس كانوا يسافرون مـن العراق إلى إيران ومنها إلى الهند، ومن إيران إلى الحجاز وإلـى أي بلد إسلامي بدون جـوار سفر وبـدون تأشيرة دخول وبدون ختم الدخول، وكان المسلم يبقـى فـي البلاد الإسلامية بدون إقامة وكان يعمـل بدون إجازة، ذلك لأن الأمة كانت أمة واحدة.
أما الآن فلسنا أمة واحدة، لقد أمسينا خمسين أمة.
وقد كانت في السابق حكومات متعددة أيضـاً، فقد كانت هناك حكومة في إيران مستقلة عن الحكومة التي تحكم فـي الدولـة العثمانية، ومع ذلك لم تكن هناك حدود بين إيران وتركيا.
الرسول الأعظم(صلـى الله عليه وآله وسلم) يقول إنكم أمة واحدة، والقوانين السائدة في البلاد الإسلامية تقول إنكم أمم متعددة.
أما ترى إلى الهند كيف كان هـذا البلد ممزقاً ومجزأً إلى أكـثر من ثلاثمائة حكومة، وكيف استطاع حزب الشعب بزعامة غاندي من توحيد هذه الحكومات، وتشكيل حكومة واحـدة، فزالت الحدود بينهم، وأصبح بمقدور الإنسان الهندي أن يسافر من ولاية إلـى أخرى بدون جواز سفر أو وثيقة عبور أخرى.
رسول الإنسانية ومنقذها
مرتضى معاش
(لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) آل عمران: 164.
هل يحتاج الإنسان إلى التاريخ وهل يستطيع أن يعيش منفصلاً عنه وأن يصنع نفسه ويصوغ حياته بعيداً عن التأثيرات التاريخية؟ إنّ التاريخ يعيش في عمق سلوك الإنسان ولا ينفك عن باطن حياته، كما لا يمكن للإنسان أن يتجرد عنه ولا أن ينزع ظلاله من نفسه وحياته. فالمجتمع الإنساني منذ نشوئه وتطوره التصاعدي حتى وصوله إلى هذه المرحلة من التطور، يعتمد على مجموعة من المكتسبات والتجارب التي خاضتها الأمم السابقة فيستلهم منها ما يعطيه القدرة على خوض المستقبل، وهو يرتكز على مجموعة من المعارف والتراكمات التي تعلمها من التاريخ، يقول تعالى في كتابه الحكيم: (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين، هذا بيان للناس وهدىً وموعظةٌ للمتقين). آل عمران: 138.
فلا يمكن الانفصال عن التاريخ إذ انه حركة تصاعدية متسلسلة يتحول فيها الحاضر إلى ماضي والمستقبل إلى حاضر فيرتبط الإنسان بتلك السلسلة ويسير وهو يعتمد على ما أفرزته من تجارب.
يقول الإمام أمير المؤمنين (ع) (أو ليس لكم في آثار الأولين مزدجر، وفي آبائكم الماضين تبصرة ومعتبر إن كنتم تعقلون). الخطبة 97/192).
والأمم المتقدمة هي الأمم التي تستفيد من عبر التاريخ وتستخلص قمة التجارب في حاضرها لتحوله إلى انطلاقة إيجابية وفعالة نحو التقدم والرقي، بعد أن استطاعت أن تفهم قوانين التاريخ التي تقود الأمة نحو التقدم وأن تعي أسباب انحلال الأمم وتخلفها.
أما الأمم المتخلفة فهي الأمم التي تقف خاملة في مكانها بعد أن تفقد زمانها وتضيّع مستقبلها وتتيه في حاضرها وتصبح عاجزة عن فهم التواريخ وقوانينه وتجارب الأمم. فهي تفقد الرؤية والبصيرة التي تجعلها قادرة على استيعاب الحاضر والسير بثقة واطمئنان نحو المستقبل.
وهذا ينطبق على العالم الإسلامي الذي يعيش اليوم التخلف ومرادفاته، فهو يفتقد الرؤية الواعية التي تجعله قادراً على فهم تاريخه والأسباب التي تحول فيها المسلمون من الرعيل الأول إلى حضارة عالمية تربعت على قمة المجد وسادت اكثر أنحاء المعمورة، فسعدت وأسعدت. لذلك فإن العالم الإسلامي بات اليوم يترنح في متاهات الحاضر ويسلك طرقاً لا توصله نحو مستقبل آمن، بل أن افتقاده للبصيرة التاريخية هوى به في طريق جرفه نحو الهاوية وتاه في صحارى التخلف كما تاه بنو إسرائيل في صحراء سيناء، يقول الإمام أمير المؤمنين (ع): (فقد جربتم الأمور وضرستموها ووعظتم بمن كان قبلكم وضربت الأمثال لكم ودعيتم إلى الأمر الواضح فلا يصم عن ذلك أصم، ولا يعمى عن ذلك أعمى، ومن لم ينفعه الله بالبلاء والتجارب لم ينتفع بشيء من العظة وأتاه التقصير من أمامه حتى يعرف ما أنكر وينكر ما عرف). الخطبة 174/316.
ولكي نستطيع أن نمتلك الرؤية السليمة لابد أن ننتقي التجارب التاريخية الناجحة والتي استثمرت أسباب التقدم وسارت بثقة وأمان وقدمت أروع الصور وأكثرها جمالاً بعد أن استطاعت أن تجسد قمة الفضائل وتضرب أجمل الأمثلة في التاريخ الإنساني.
ولا يمكننا أن نجد في التاريخ الإنساني منذ نشوئه وحتى الآن مثل تاريخ النبي محمد (ص) وحركته السليمة في نشر المكارم، ونجاحه الباهر في إيصال الإسلام إلى مختلف البقاع في مدة قصيرة وبأقل قدر ممكن من الخسائر، الشيء الذي لم يحدث له مثيل في التاريخ الإنساني.
تاريخ الرسول (ص) ليس مجرد تاريخ نقرأه لننال الثواب ونفتخر بعظمته ونجعله مجرد قصة تاريخية نستلذ بها، بل أن هذا التاريخ العظيم هو تجربة حيّة تزخر بالمفاهيم والبصائر والحقائق التي يمكن لأي إنسان أن يستمد منها طاقة كبرى يدّخرها في نفسه تقوده نحو التقدم والرقي شريطة أن يفهم بعمق القوانين التي قامت عليها هذه الحركة الناجحة.
واليوم فإن العالم الإسلامي يحتاج إلى قراءة هذه التجربة من جديد واستلهام العبر وفهم أسلوب الحياة واستنتاج قوانين التقدم منها لتطبيقها على حاضره، فالرسول (ص) قاد المسلمين في ظل تعاليم الإسلام من تلك الصحراء القاسية، الغارقة في مستنقع الجاهلية والفقر، والجوع والمرض، إلى واحة الخير والسعادة وقمة المجد والعظمة. مع انه كان لوحده لا يملك ناصراً إلا القليل، ولكن المسلمين اليوم وهم يقاربون المليارين، ويمتلكون الثروات الكبيرة ويعيشون في وسط الحضارة العصرية المتقدمة ومع ذلك نرى التخلف يسيطر عليهم في مختلف المجالات، أنهم يحتاجون إلى تلك الروح الكبيرة والبصيرة النافذة والعقل الجبار والصدر الواسع والأخلاق الرفيعة والحاكم العادل الذي يضعهم على الطريق الصحيح، انهم يحتاجون إلى الرسول (ص) بتاريخه وتجربته كقدوة وأسوة.
قال تعالى في كتابه الحكيم: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة).
ولهذا فإننا لابد أن ندرس التاريخ وخصوصاً تاريخ خاتم الرسل (ص)
أعظم شخصية في التاريخ
لم تبرز على طول التاريخ شخصية مثل شخصية النبي محمد (ص)، بما أحدثه من تغييرات في التاريخ الإنساني، وقد اعتبر أحد الكتاب الغربيين في كتابه (الخالدون مائة) الرسول (ص) في المرتبة الأولى من عظماء التاريخ البشري، كما واعتبره اعظم شخصية في تاريخ العالم بما حققه من نجاح عظيم في إبلاغ رسالته وتأسيسه لدولة إسلامية كبيرة، وحضارة عريقة ظلت تغذي العالم بالعلم والمعرفة والعطاء لقرون عديدة، حيث يقول الدكتور مايكل هارث أستاذ الرياضيات والفلك والفيزياء في الجامعات الأمريكية وخبير هيئة الفضاء الأمريكية:
لقد اخترت محمداً (ص) في أول هذه القائمة.. ولابد أن يندهش كثيرون لهذا الاختيار ومعهم حق في ذلك، ولكن محمداً (ص) هو الإنسان الوحيد في التاريخ الذي نجح نجاحاً مطلقاً على المستوى الديني والدنيوي. وهو قد دعا إلى الإسلام ونشره كواحد من أعظم الديانات واصبح قائداً سياسياً وعسكرياً ودينياً، وبعد ثلاثة عشر قرناً من وفاته فإن أثر محمد (ص) لا يزال قوياً متجدداً.
وتظهر عظمة الرسول (ص) من خلال ذلك الإعجاز الهائل الذي غير به ظاهرة الجزيرة العربية وأخرجها من بؤس الجاهلية وشقاء التقاليد الوثنية، فالجزيرة العربية كانت غارقة في جهل مطبق، وظلام دامس، وفقر مميت. وان الذي يقارن بين الجزيرة العربية قبل البعثة وبعد البعثة يصاب بالذهول مما يراه من التحول الإعجازي الجذري الذي حصل فيها. يقول الإمام أمير المؤمنين (ع) في كلام يصف فيه هذه الحالة:
(بعثه والناس ضلال في حيرة، وخابطون في فتنةٍ، قد استهوتهم الأهواء، واستزلتهم الكبرياء، واستخفتهم الجاهلية الجهلاء، حيارى في زلزال من الأمر وبلاء من الجهل، فبالغ (ص) في النصيحة ومضى على الطريقة ودعا الى الحكمة والموعظة الحسنة.
ويقول (ع) أيضا في وصف الجاهلية قبل البعثة:
(أرسله على حين فترة من الرسل، وطول هجعة من الاُمم وأعتزام من الفتن، وانتشار من الاُمور، وتلظٍّ من الحروب. والدنيا كاسفة النور، ظاهرة الغرور، على حين اصفرار من ورقها وأياس من ثمرها وأغوار من مائها، قد درست منار الهدى، وظهرت اعلام الردى، فهي متجهّمةٌ لأهلها، عابسةٌ في وجه طالبها، ثمرها الفتنة، وطعامها الجيفة، وشعارها الخوف، ودثارها السيف. الخطبة 87/157.
فتحول الأعراب الغارقين في الصحاري المترامية والجاهلية البائسة الى حضارة منطلقة أعطت العالم روحاً جديدة وافاضت عليه تاريخاً مشرقاً وضّاءاً.
يقول المستشرق الامريكي ادوارد وورمسي:
وكانت بلاد العرب غارقة قبل نبوّة محمد (ص) في أحط الدركات حتى ليصعب علينا وصف تلك الخزعبلات التي كانت سائدة في كل مكان، فالفوضى العظيمة التي كان الناس منهمكين فيها في ذلك العصر، وجرائم الأطفال ـ يعني قتلهم خشية الفقر ـ ووأد البنات أحياء، والضحايا البشرية التي كانت تقدم باسم الدين، والحروب الدائمة التي تنشب آناً بعد آن بين القبائل المختلفة، والنقص المستديم في نفوس أهل البلاد وعدم وجود حكومة قوية. حتى أتى الوحي من عند الله الى رسوله الكريم، ففتحت حججه العقلية السديدة أعين أمة جاهلة فانتبه العرب، وتحققوا انهم كانوا نائمين في أحضان الرذيلة المظلمة ولنتصور سكان البادية حينما رأوا أصنامهم تكسّر على مرأى ومسمع منهم وهم المشهورون بالشجاعة والصلابة في الرأي وعدم الخضوع للغير، أفلا يثور ثائرهم ويهبّون لقتل محمد؟ ولكنه كان يتكلم بكلام الله ربه، فقد كانوا يشعرون بذلك حيث يجدون في نبرات صوته هدىً وتأثيراً كبيراً طاغياً، ولهذا لم يستطيعوا القيام ضد تيار الحق، ولم يجدوا بداً من الجري في مجاري النقاء الجديد، لأنه اجتاح كل الموانع والسدود كما يجتاح السيل الجارف كل شيء يقف في طريقه وهكذا انتصرت الفضيلة على الرذيلة.
والذي يضفي على هذه الرسالة والرسول آفاق النجاح والموفقية في تحقيق أهدافها، هي تلك الانعطافة التي أحدثها رسول الله (ص) في مسيرة الحياة الإنسانية. فمع انطلاقة هذه الرسالة بدأ عهد جديد تحولت فيه الإنسانية الى وجه جديد وحضارة متألقة تتصاعد نحو التقدم والرقي. إذ أن الفكر الإنساني بدأ ينضج ويتبلور بعد أن استطاعت الحضارة الإسلامية أن تقدم الى العالم النتاج العلمي الكبير الذي اصبح وبالفعل قاعدة لانطلاقة العلم الحديث، فقد أثار الرسول (ص) برسالته الخالدة كوامن الفكر، واوقد جمرة العقل، ورسّخ منهج الاجتهاد والتجديد بعد أن حارب أفكار الجاهلية والتقليد الأعمى والاستعباد والاستبداد، لينير في درب الإنسانية مفاهيم الحرية والعلم، والشورى والأخاء والأخلاق، فبعد أن استطاعت الحضارة الإسلامية أن تمد جذورها في بلاد العالم بدأت مرحلة جديدة من الفكر والعقلانية، واتخذ العالم منهجاً متميزاً في إدارة أموره ليعتمد بالدرجة الأولى على الحرية والعلم والعقل.
فقد كان المنطلق الذي قامت عليه الرسالة المحمدية هو العلم (اقرأ باسم ربك الذي خلق)، والحرية (ويضع عنهم اصرهم والأغلال التي كانت عليهم) والعقل (أفلا يعقلون)، ليصبح الخطاب العلمي والعقلي هو المعجزة الكبيرة التي تمثلت في القرآن، ولذلك فأن القرآن الكريم يجسد في طياته مفاهيم حضارة جديدة باستطاعتها أن تغذي العالم بأفكار ورؤى تعطيه الطاقة الحيوية لبناء إنسانية متطورة. يقول الكاتب الروسي الكبير تولستوي:
(ومما لا ريب فيه أن النبي محمد (ص) كان من عظماء الرجال المصلحين الذين خدموا المجتمع الإنساني خدمة جليلة، ويكفيه فخراً إنه هدى أمة برمتها الى نور الحق، وجعلها تجنح الى السكينة والسلام، وتؤثر عيشة الزهد، ومنعها من سفك الدماء وتقديم الضحايا البشرية، وفتح لها طريق الرقي والمدنية، وهذا عمل عظيم لا يقوم به الاّ شخص اُوتي قوّة، ورجل مثل هذا لجدير بالاحترام والإجلال).
ويقول الكاتب الكبير برنارد شو:
(إني أكنُّ كل تقدير لدين محمد (ص)، لحيويته العجيبة فهو الدين الوحيد الذي يبدو لي ان له طاقة هائلة لملاءمة أوجه الحياة المتغيرة وصالح لكل العصور. لقد درستُ حياة هذا الرجل العجيب، وفي رأيي انه يجب ان يسمى منقذ البشرية).
نعم انه منقذ البشرية ودينه دين الحياة والسعادة، يقول تعالى في كتابه الحكيم: (الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات الى النور بإذن ربهم الى صراط العزيز الحميد). إبراهيم: 1.
ومما لا ريب فيه فإن انطلاقة الفكر الإنساني الحديث بدأت على يد رسول الله (ص) عندما حملت رسالته الخالدة الى العالم تلك المفاهيم الراقية التي غيرت التاريخ الإنساني ليبدأ إنعطافة حضارية جديدة لا زالت تفيض على البشر بالعطاء والخير والعلم. فقد أرسى رسول الله (ص) مبدأ الحرية بصورة عملية بعد أن أكد القرآن على ذلك في الكثير من آياته، فكانت الحرية السياسية والفكرية التي تعطي للإنسان الحق في التعبير عن رأيه (وأمرهم شورى بينهم) وكذلك الحرية الدينية التي تمنح للأديان الأخرى الفرصة لممارسة حقوقهم وقوانينهم (لا إكراه في الدين). وقد ضرب الإسلام على طول تاريخه أروع الأمثلة في التعامل مع الأديان الاُخرى والتعايش معها، فنعمت هذه الأديان بالحرية والأمن. يقول المستشرق الفرنسي جاك بيرك:
لم يكن الإسلام في أي يوم عدو الديانات الاُخرى، بل انه الديانة الوحيدة التي حافظت على حقوق أبناء الديانات الاُخرى، وهذا موقف ساحر بكل تأكيد، وقلما شاهدنا في تاريخ الديانات هذا المستوى من السحر الذي نشاهده في الإسلام.
وإذا كان الغرب يدعي تصديه اليوم لطرح الأفكار الإنسانية الجديدة ومبادرته إليها مثل: الحرية والمساواة والديمقراطية وحقوق الإنسان و..، فإن الرسول (ص) كان قد سبقهم من قبل بعدة قرون، فكانت الحرية هي محور وجود الإنسان في الإسلام، والشورى هي الأصل الذي لابد للحاكم أن يلتزم بها في ممارسة الحكم، والمساواة هي النظرة الاجتماعية العامة التي يجب ان تحكم المجتمع الإسلامي، فلا فرق بين ابيض ولا أسود، ولا بين عربي ولا أعجمي، إلاّ بالتقوى، والناس سواسية كأسنان المشط، فالمقياس للتفاضل في الإسلام هو الكفاءة المدعومة بالتقوى لا اللون والجنس والعنصر والطبقة، كما ان العدالة الاجتماعية هي القانون الحاكم في الإسلام. لذلك نجد ان رسالة رسول الله (ص) لما قامت على هذه المفاهيم ضمت كل الفصائل البشرية على اختلافها، فكان الى جنب الأغنياء في معسكر رسول الله (ص) الفقراء والى جنب العرب الفرس مثل سلمان الفارسي والى جنب الأبيض الأسود مثل بلال الحبشي، يقول البروفسور كاراديفو في كتابه المحمدية:
(إن محمداً كان هو النبي الملهم والمؤسس ولم يستطع أحد أن ينازعه المكانة العالية التي كان عليها، ومع ذلك فإنه لم ينظر الى نفسه كرجل من عنصر آخر، أو من طبقة أخرى غير طبقات بقية المسلمين..، ان شعور المساواة والأخاء الذي أسسه محمد (ص) بين أعضاء الكتلة الإســلامية، كان يطبّق عملياً حتى على النبي نفسه).
وهكذا فإن رسول الله (ص) بذر البذرة الأولى في حقل الإنسانية لإبداع عالم جديد يقوم على حركة من نوع جديد تحمل أفكاراً ومفاهيم جديدة. فلأول مرة في تاريخ العالم بدأت أول حركة إصلاحية عالمية شاملة اعتمدت على السلم والأخلاق والعدالة والحرية والشورى والمساواة ففتحت صفحة حضارية ناصعة البياض وكتبت تاريخاً مشرقاً تفتخر به الإنسانية حتى الأبد.
إنّ دراسة تاريخ النبي محمد (ص) يعطينا زخماً كبيراً من الأفكار والتجارب الذي يوفر لنا الكثير من المعلومات التي يمكن الاستفادة منها في حاضرنا والنجاح في إنقاذ العالم الإسلامي من مشاكله. إذ أن حركة الرسول (ص) كانت حركة ناجحة كلياً شهد بذلك الأصدقاء والأعداء، وهذا يعني انه يمكن أن تصبح هذه التجربة نبراساً نهتدي بها لتحقيق النجاح في حياتنا، ولكن بعد أن نستفيد منها بصورة جادة وواقعية، وندرسها بدقة وحزم، ونفهم ظروفها وحدودها والأسس التي قامت عليها
اللاعنف
إنّ أهم الأسس التي قامت عليها حركة الرسول (ص) والتي كان لها الدور الأساسي في نجاحها هو أسلوب السلم والسلام، وعدم اللجوء الى العنف والقوة. وهذا الأسلوب أي أسلوب اللاعنف في التحرك الذي انتهجه رسول الله(ص) هو من معاجزه الكبيرة التي تنم عن عظمته وعبقريته، فمع كل المواجهات الصعبة والمضايقات التي لاقاها من أعداءه لم يلجأ الى العنف أبداً، وكان السلام شعاره ودثاره دائماً، الاّ في حالات الدفاع عن النفس.
فالسلام هو شعار الإسلام ولذلك يقول الله تعالى في القرآن الكريم: (ادخلوا في السلم كافة)، أي أن السلم هو الأصل في الإسلام وهو القاعدة في المنطلق والحركة، والمنطق والبيان، والفعل والانفعال، ولهذا السبب تقدم الإسلام واستطاع أن يغزو العالم وينشر حضارته وأفكاره في ارجائها ويحقق ذلك النجاح التاريخي الكبير.
لقد كان رسول الله (ص) مبعوث السماء ويهدف بالدرجة الأولى الى إصلاح الإنسان وإنقاذ المجتمع الإنساني وتحرير العقل من رواسب الجاهلية وقيود الاستعباد، لذلك فإنه ارتكز على مخاطبة العقل واقناع الإنسان بضرورة تغيير نفسه ودراسة أفكاره وسلوكه، وهذا يعتمد بالضرورة على الحوار الموضوعي والمنطق الفكري والاستدلال الهادئ، مما يعني أن أية حركة عنيفة أو خطوة خشنة سوف تحقق مردوداً عكسياً وتفرز نتائج سلبية تؤثر على مسيرة الحركة وتؤدي بها الى التوقف والذبول.
ومن هنا فإن منطق الرسل والأنبياء هو منطق السلم واللاعنف والاحتجاج العقلاني من أجل إنقاذ البشر، وكان هذا واضحاً في المنهج السلمي الذي اعتمده الرسول (ص) في إبلاغ رسالته مما جعله قادراً على السيطرة على الجزيرة العربية بأسرع وقت وأقل الخسائر. يقول الله تعالى في كتابه الكريم حول استخدام السلم واللين والابتعاد عن العنف والغلظة، واستخدام سياسة العفو والاعتماد على منهج الشورى كأسلوب في الإقناع الحر، والحوار السلمي، والمشاركة في اتخاذ القرار: (فبما رحمةٍ من الله لنت لهم ولو كنت فظّاً غليظ القلب لأنفضّوا من حولك فاعفُ عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله ان الله يحب المتوكلين).
لقد ذكر المؤرخون أن أهل مكة لم يحاربوا الرسول (ص) بعد فتح مكة، وانما رضخوا للحكم الإسلامي بدون قوة وسلاح، لأن الرسول (ص) كان قد استولى على قلوبهم بعد أن عفى عنهم، والقلب عندما يحمل الولاء والمحبة لأحد يصعب عليه بعدها أن يثور ويتمرد، فعندما هتف أحد أصحاب الرسول (ص) عند دخولهم مكة: (اليوم يوم الملحمة اليوم تسبى الحرمة..)، قال الرسول (ص) لعلي (ع): خذ اللواء واهتف بعكسه. فأخذ علي (ع) اللواء وهتف: اليوم يوم المرحمة اليوم تحفظ الحرمة.
يقول المستشرق أميل ديرمانجم في كتابه حياة محمد:
إن محمداً رسول الإسلام (ص) قد أبدى في اغلب حياته بل طول حياته اعتدالاً لافتاً للنظر، فقد برهن انتصاره النهائي على عظمة نفسية قلّ أن يوجد لها مثيل في التاريخ، إذ أمر جنوده ان يعفوا عن الضعفاء المسنين والأطفال والنساء، وحذرهم من أن يهدموا البيوت أو يسلبوا التجار أو يقطعوا الأشجار المثمرة، وأمرهم الا يجرّدوا السيوف إلاّ في حالة الضرورة القاهرة، بل قد بلغنا انه كان يؤنب بعض قوّاده ويصلح أخطاءهم إصلاحاً مادّياً.
وقد تجلى السلم في حياة الرسول (ص) بشكل كبير وذلك من خلال سلوكه اليومي مع أصحابه واعداه، فقد عفى رسول الله (ص) عن كفار قريش الذين قاتلوه وآذوه وقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء، ولما ناصروه في حرب حنين أعطاهم الغنائم الكثيرة. وعفى عن وحشي قاتل عمه حمزة وعن غيره من المطلوبين بالأوتار وعمن كان من اقطاب الجاهلية وعلى اثر ذلك اخذ الإسلام بالانتشار سريعاً بعد أن انبهر الناس بأخلاقيات الرسول (ص) وعفوه وحلمه وصبره وسلمه.
يقول الله تعالى في كتابه الكريم: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم). التوبة : 29.
مكارم الأخلاق
ومن الاُسس التي قامت عليها حركة الرسول (ص) وانطلقت عبرها نحو النجاح هي الأخلاق الرفيعة التي تجسدت في الرسول (ص) عملياً، يقول الله تعالى في وصف رسوله: (وإنّكَ لعلى خلقٍ عَظيم) القلم : 4.
فمن طبيعة الإنسان الفطرية هو ميله الى مكارم الأخلاق وحبه للأخلاق الحسنة، يقول أمير المؤمنين (ع): (عجبت ممن يشتري العبيد بماله، كيف لا يشتري الأحرار بأخلاقه). فمهما تعاظمت قوة الإنسان العسكرية والاقتصادية فإنه لا يستطيع أن يستولي على القلوب وإن استولى على الأجساد، إذ أن حكومة القلوب تنبع من الروح المثالية التي تجسدها الأخلاق الإنسانية الرفيعة، وهذا هو سلاح الرسول (ص) في حركته لنشر الإسلام، حيث لم يملك (ص) شيئاً سوى سمو أخلاقه وعظمة ايمانه مما جذب الناس إليه وجعلهم يؤمنون بدينه زرافات زرافات.
فقد كان رسول الله (ص) أجود الناس كفّاً، وأكثرهم صبراً، واصدقهم لهجة، وأوفاهم ذمة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، من رآه حابه ومن خالطه أحبه وكان يؤلف الناس ولا ينفرهم، ومن جالسه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف عنه، ومن سأله حاجة لم يرده إلاّ بها أو بميسور من القول. وبأخلاقه العظيمة هذه تحول الأعداء الى أصدقاء والأصدقاء الى متفانين في سبيل الله، ومضحين من أجل الرسالة، وبأخلاقه العالية هذه امسك الرسول (ص) بقلوب الأعداء وجعلهم يقرّون له بالفضل ويعترفون له بالنبل والكرامة، ومن ذلك اعتراف قريش على ما نقل من انه عندما لقي الأخنس أبا جهل قال له: يا أبا الحكم ليس هنا غيري وغيرك يسمع كلامنا، تخبرني عن محمد (ص) صادق أم كاذب؟ فقال أبو جهل: والله ان محمداً لصادق، وما كذب محمد قط.
وبهذا الصدد يقول (فلورانديه) و(جورج مارسيه) في كتابهما (العالم الشرقي) ما نصه:
(كان محمد رسول الله (ص) شجاعاً يخوض المعركة بنفسه ويرد الثبات الى قلوب الذين يضعفون وكان رحيماً بالضعفاء، ويؤوي في بيته عدداً كبيراً من المحتاجين، وكان مع احتفاظه بهيبة كاملة بسيطة الحركات لا يتكلف شيئاً وبشوشاً سهل المعاملة رقيق الحماسة لا يثير غضبه أهل الفضول، وكان رجلاً بشيراً.. وان فيه لا شك كثير من الخصال التي اتصل بها رجال عصره، ولكنه قد حمل الى هؤلاء الرجال مثلاً رفيعاً في الدين والأخلاق، وسما سمواً بالغاً عن الاراء القديمة التي كانوا يرزحون تحت ثقلها.. وهو إذ جمعهم عصبة واحدة تحت راية ذلك المثل الرفيع، قد صنع منهم قوة قدّر لها فيما بعد أن تهز أركان العالم القديم).
ويقول لورد هدلي:
(فكّرت وابتهلت أربعين عاماً لكي اصل الى الحقيقة، ولابد أن اعترف أن زيارتي للشرق المسلم ملأتني احتراماً للدين المحمدي السلس، الذي يجعل المرء يعبد الله طوال مدة الحياة، لا في أيام الأحد فقط، وأني لأشكر الله أن هداني للإسلام الذي اصبح حقيقة راسخة في فؤادي، وجعلني التقي بسعادة وطمأنينة لم التق بهما من قبل، لقد كنت في سرداب مظلم، ثم أخرجني الاسلام الى فسيح من الأرض تضيئه شمس النهار، فأخذت استنشق هواء البحر النقي الخالص).
ويتحدث لورد هدلي عن شخصية محمد بن عبد الله (ص) باعتبارها المثل الأعلى فيقولـ:
(وان للنبي العربي أخلاقاً قوية متينة وشخصية وزنت ومحصت واختبرت في كل خطوة من خطى حياته، ولا نقص فيها على الإطلاق، وبما أننا في حاجة الى نموذج كامل يفي باحتياجاتنا في الحياة، فشخصية محمد النبي المقدس (ص) تسد تلك الحاجة، فهي مرآة تعكس علينا التعقل الراقي والسخاء والكرم والشجاعة والاقدام والصبر والحلم والوداعة والعفو والتواضع والحياء، وكل الأخلاق الجوهرية التي تكون الإنسانية أسمى صورها وإنّا لنرى ذلك في شخصيته بألوان وضاءة.
ويقول أيضا هدلي في أخلاق الرسول (ص):
(وقد نال محمد نبي الإسلام (ص) حب العالم أجمع وحب أعدائه بوجه خاص، وذلك عندما ضرب مثلاً في مكارم الأخلاق بإطلاق سراح عشرة آلاف أسير، كانوا في يوم من الأيام يعملون على قتله والفتك به وإيراده وأصحابه موارد الهلاك..).
ويقول الفيلسوف الإنجليزي توماس كارليل:
(لقد كان محمد (ص) زاهداً متقشفاً في مسكنه ومأكله ومشربه وملبسه وسائر حياته وأحواله، وكان طعامه عادة الخبز بل التمر والماء وربما كان يصلح ويرفو ثوبه بيده، فهل بعد ذلك مكرمة ومفخرة..!؟ فحبذا محمد (ص) من نبي خشن اللباس، خشن الطعام، مجتهد، قائم النهار، ساهر الليل، دائب في نشر دين الله، غير طامح الى ما يطمح إليه أصاغر الرجال، من رتبة أو دولة أو سلطان، وهو بحق النبي ذو الخلق العظيم).
ويقول المستشرق الانجليزي هولين بول الذي اعتنق الإسلام عام 1914:
(أن محمداً رسول الإسلام (ص) كان يتصف بكثير من الصفات الحميدة، كاللطف والشجاعة ومكارم الأخلاق، حتى ان الإنسان لا يستطيع أن يحكم له دون أن يتأثر بما تتركه هذه الصفات من أثر في نفسه، ودون أن يكون هذا الحكم صادراً عن ميل وانما على هدى، وكيف لا؟ وقد احتمل محمد عداء أهله وعشيرته أعواماً، فما وهن له عزم ولا ضعفت له قوة، وقد بلغ محمد من نبله أنه لم يكن طول حياته الباديء بسحب يده من يد مصافحه، حتى ولو كان المصافح طفلاً، وانه لم يمر بجماعة يوماً رجالاً كانوا أو أطفالاً دون أن يقرأ عليهم السلام، وفي شفتيه ابتسامة حلوة وفي فمه نغمة جميلة، كانت تكفي لسحر سامعها فيجذب القلوب إليه جذباً).
العقل والحكمة
ان دراسة حياة النبي (ص) تكشف لنا عن عقل كبير استطاع أن يفهم الحياة بحكمة، ويتعامل مع الواقع الخارجي بحنكة سياسية كبيرة يندر أن يرى لها التاريخ مثيلاً، فالحكمة السياسية التي تعامل بها الرسول (ص) مع أعداءه جعلته ينتصر عليهم بأسرع وقت واقل الخسائر، فلا يمكن أن نجد على طول التاريخ قائداً سياسياً كبيراً استطاع أن ينتصر على اعداءه بهذه السرعة وهذا العدد القليل من الخسائر البشرية والمادية بعد أن كان لا يمتلك أي شيء من الإمكانات المادية التي تؤهله لأن ينتصر غير عقله الكبير وحنكته السياسية، فقيادته للحروب مع المشركين واستخدامه لأذكى الاستيراتيجيات العسكرية وخاصة في اختياره للمواقع الحربية واستخدامه لأساليب الحرب السليمة، تضعه في قمة التاريخ العسكري، وإذا كان تقييم الخبراء العسكريين لإدارة الحرب، بأنها الانتصار بدون حرب ودماء فإن هذا يجعله (ص) من أذكى القادة في التاريخ.
ومن ناحية أخرى فإن الإدارة الحكيمة للصراع السياسي توضح عبقرية الرسول (ص) وتكشف عن أحد أهم أسباب نجاحه في حركته، ويبدو ذلك جليّاً في صلح الحديبية حيث استفاد منه رسول الله (ص) في تحكيم مواقع الإسلام وامتلاك حرية الحركة لأجل نشره، ويبدوا واضحاً أيضا في قدرته على ايجاد التوازن والاتحاد بين فئات المسلمين من المهاجرين والانصار والاوس والخزرج وذلك من خلال مسألة التآخي التي يمكن أن تعتبر اكبر مناورة سياسية ناجحة في التاريخ حيث رسخت دعائم الإسلام وأدت الى تماسك المجتمع الإسلامي وقيادته نحو هدف مشترك.
وكما يبدو ذلك ايضاً في تعامله الذكي مع المنافقين الذين كانوا يسعون الى تخريب الإسلام من الداخل، ولكنه بحكمته (ص) استطاع ان يحجّمهم ويستوعبهم.
ويظهر العقل الكبير للرسول (ص) في فن ادارته للحكم وقدرته على تأسيس دولة حديثة قوية تمتلك نظاماً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً متوازناً، وحينها بدأت مرحلة تاريخية جديدة في حياة البشرية لم تتعرف عليها من قبل في انظمة الحكم والدولة. فقد اتسع نطاق المدينة وتزايد عدد سكانها، وأخذ الناس يعمّرون الاراضي الواسعة. فكتب رسول الله (ص) صحيفة بين المهاجرين تجعل أهل كل حي من الأنصار مسؤولين عن حيّهم وعن أمن المدينة من ناحيتهم، فكانت حكومة الرسول (ص) حكومة شعبية زمامها بيد الشعب نفسه، فتحولت حكومة المدينة الى حكومة مثالية لم يسمع فيها جرائم أو منازعات أو فوضى أو قلّة نظام، وذلك بعد أن استطاع الرسول (ص) ترسيخ المثل الإسلامية وتوطيد المحبة وتحكيم المساواة بين الجميع وتحصين الاُمة بالقوة الحقيقية والاطمئنان الواقعي والتقدم الصحيح، فساد الإيمان بالمثل والقيم الاسلامية في الناس، وتضائلت المشاكل الفردية والنزاعات الشخصية، وغلب على الناس الاتصاف بروح الجماعة والتعاون والتحاشي عن الوقوع في المعاصي والجرائم، وظهر في الناس التحلّي بالأخلاق الحسنة التي لم يعرفها الناس من قبل، فكان يؤثر الناس بعضهم بعضاً في العطاء والبذل في سبيل الله تعالى.. وقد شعر الجميع بأن زماناً جديداً يطلّ عليهم، فتهافتت القلوب الى الإسلام وأخذ الناس يلتفون حول رسول الله (ص) بالطاعة والرضا وأخذت العشائر والقبائل والبلاد تتسابق الى الإسلام فازدادت البلاد الإسلامية بذلك سعة ورحباً، كما إزدادت شعبية الحاكم وحرية الشعب الممتزجة بالإيمان والفضيلة وحب الخير فأنزل الله تعالى:
(بسم الله الرحمن الرحيم إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله افواجاً فسبّح بحمد ربّك واستغفره انّه كان تواباً).
وبهذا الصدد يقول الكاتب الامريكي سير فلكد.
(كان عقل النبي محمد (ص) من العقول الكبيرة، التي قلما يجود بهذا الزمان، فقد كان يدرك الأمر ويدرك كنهه من مجرد النظرة البسيطة، وكان النبي محمد (ص) في معاملاته الخاصة على جانب كبير من ايثار العدل، فقد كان يعامل الصديق والقريب والبعيد والغني والفقير والقوي والضعيف بالمساواة المطلقة. إنّ كل هذه الفتوحات والانتصارات لم توقظ في شعوره العظمة والكبرياء، ففي ذلك الوقت الذي وصل فيه الى غاية القوة والسيطرة كان على حالته الأولى في معاملته ومظهره، حتى بالرغم من الغنائم وغيرها فإنه كان يصرفها على نشر دعوته ومساعدة الفقراء.. وكان محمد (ص) يجد راحته وعزاءه في أوقات الشدة والمحنة في الثقة بالله ورحمته، ومعتمداً دائماً على الله ليتمتع بالحياة الاُخرى).
إن دراسة حياة الرسول (ص) وحركته الاصلاحية الشاملة ومسيرته السلمية العادلة تلقي أنواراً مشرقة لاختيار الطريق نحو ايجاد التغيير وإنقاذ العالم الإسلامي.
الخطوط الأساسية
ويمكن أن نلخص الأعمدة الأساسية التي قامت عليها حركة الرسول (ص) الاصلاحية في الاُمور التالية:
1 ـ الحرية الإسلامية: حيث أن الرسول (ص) قام من أجل الحرية وانقاذ الإنسان من الاستعباد الجاهلي، وعن طريق انقاذ الناس من العبودية استطاع الرسول أن ينجح في حركته، وإذا أردنا أن ننقذ العالم الإسلامي فلابدّ لنا أن نجاهد من أجل الحرية.
2 ـ الاُمة الإسلامية الواحدة: فبعد أن جمع الرسول المسلمين ووحدهم في إطار أمة واحدة، أنطلقت الاُمة الاسلامية فبنت للعالم مجداً حضارياً بقيت الإنسانية تتمتع به طوال قرون عديدة. وإذا أردنا أن ننال المجد ثانية لابد أن نسعى لتحقيق امة اسلامية واحدة.
3 ـ الاخوة الإسلامية: فعندما كانت روح الأخوة هي الحاكمة بين أصحاب الرسول استطاعوا النجاح، فالرسول (ص) الغى الفوارق بين الغني والفقير، والأبيض والأسود، والعربي والأعجمي، حتي اصبحت الأخوة الإسلامية هي المقياس في فهم العلاقات الاجتماعية، ومن ثم ساروا في الاتجاه المنطقي للحياة، وعلينا إذا اردنا أن نستعيد مجدنا الغابر الرجوع الى الأخوة الإسلامية بمعانيها الصادقة.
4 ـ الشورى: فعندما يساهم الناس بآراءهم في ممارسة الحكم واتخاذ القرار تتفتّح الكفاءات ويرتبط الناس بالحاكم ويستعدون للتعاون معه مثل ما تعاون المسلمون مع الرسول (ص) في صنع مجد الحضارة الإسلامية وإذا أردنا أن نتخلص من مآسينا لابد أن نتخذ الشورى منهاجاً في الحياة.
5 ـ السلم واللاعنف: حيث أن العنف يحطم أهداف الحركة ويلغي مشروعيتها، وينفر الناس منها، بينما السلم يقودها نحو النجاح والتفاف الناس حولها. ولهذا نجح الرسول في بناء دعائم الإسلام وانطلاق حضارته.
6 ـ القانون الإسلامي: فقد بنى الرسول (ص) مجتمعاً متحضراً ومتماسكاً عن طريق تطبيق القوانين الالهية التي تمنح السعادة والاستقرار للمجتمع، فإذا أراد المسلمون أن يتخلصوا من مشاكلهم لابد أن يفهموا هذه القوانين ويسعون لتطبيقها. قال الله تعالى في كتابه العزيز: (ومن أعرض عن ذكري فإنّ له معيشةً ضنكا).
7 ـ مكارم الأخلاق: فلا يمكن النجاح بالأخلاق السيئة التي تنفر الناس وتبعدهم فقد استطاع الرسول أن ينجح بأخلاقه العظيمة مثل: العفو عمن ظلمه، سعة صدره، وتحمله للأذى، صبره على المكاره، تشاوره مع اصحابه، حلمه وعدم غضبه، زهده وعدم ترفعه، جلوسه مع المساكين والضعفاء وعدم تكبره عليهم، مداراته للناس واستيعابهم عن طريق صلتهم وحل مشاكلهم وقضاء حوائجهم الى صفات كثيرة ترسم لنا طريق العمل السليم في حياتنا.
قبس من التاريخ
لقد كان التاريخ ولا يزال هو المشعل الذي نقتبس منه الرؤى لنسير على ضوئه نحو الحقيقة ونبحث في مطاويه عن الاسلوب العملي الصحيح الذي يهدي المسلمين الى الحركة نحو بناء كيانهم وتجديد حياتهم، وليس هناك أفضل من تاريخ الرسول (ص) الذي يوحي لنا بالأمل والحياة والوعي والبصيرة ويدلنا على طريقة انقاذ أنفسنا ومجتمعنا من البؤس والشقاء ويهدينا الى كيفية الدخول في دائرة الحياة السعيدة والمجتمع الإنساني الصالح. وقد قال أمير المؤمنين (ع) في وصف رسول الله (ص): (حتى اورى قبساً لقابس وأنار علماً لحابس فهو أمينك المأمون وشهيدك يوم الدين.
ومن هنا فإن سماحة الإمام آية الله العظمى السيد محمد الشيرازي (دام ظله) قد اختار كتابة تاريخ الرسول (ص) ليكون لنا المشعل المنير، الذي يهدينا الى الصراط المستقيم.
فالإمام الشيرازي يرى ضرورة دراسة تاريخ الإسلام وتاريخ الرسول (ص) والإئمة المعصومين من أهل بيته (عليهم السلام) ذلك لأنه يرى انه من غير الممكن أن ننفصل عن تاريخنا ونحافظ مع ذلك على كرامتنا وعزّنا. فهل من المعقول أن نملك العز والمجد مع انّا قد أسدلنا الطرف عن معالم تاريخنا الإنساني العظيم وغضضنا النظر عن عبره ودروسه البنّاءة؟
إذن : علينا إذا أردنا أن نجد انفسنا ونبحث عن واقع جديد لحياتنا أن نرجع الى تاريخنا الإسلامي ونلقي عليه نظرة ثاقبة نظرة وعيٍ وفهم ندرك بها حقائق التكوين ونعي بها سنة الله تعالى في الحياة، فإن سنن الله لا تبديل لها ولا تحويل.
ولذلك كتب الإمام الشيرازي (حفظه الله) في الرسول (ص) وتاريخه ليقدم لنا نموذجاً مثالياً رائعاً نغترف منه دروساً حيوية تنقذنا من واقعنا المأساوي. إذا ما طبقناها في حياتنا العملية بإذن الله تعالى.
ولأول مرة في تاريخ العالم
وقد كتب سماحة الإمام الشيرازي كتاباً بعنوان (ولأول مرة في تاريخ العالم)، وقد كان هدف سماحة الإمام المؤلف من كتابة هذا الكتاب بالدرجة الأولى هو استعراض الدروس التاريخية واللطائف الدقيقة من حياة الرسول (ص) حتى يمكن للجميع استيعابها وفهم هذه المرحلة التاريخية المضيئة ومن ثم السعي من أجل تطبيقها في حياتنا.
هذا وان شخصية الإمام الشيرازي (دام ظله) غير خافية على أحد، فهو الذي اعترف به التاريخ الحديث مفكراً اسلامياً كبيراً، ومجدداً حضارياً عظيماً، فقد استطاع الإمام الشيرازي خلال نصف قرن من الجهاد والكفاح، والتثقيف والتربية أن يغذي الساحة الإسلامية بأفكار اسلامية أصيلة، ويبلور الفكر الإسلامي بصياغة عصرية، ويقدم للعالم المعاصر الصورة المثالية الرائعة عن الإسلام.
فقد كان الإمام الشيرازي (حفظه الله) يؤكد على تاريخ الرسول (ص) ويتمحور حوله طوال حياته ويعتبره النموذج الأصيل الذي يجب أن يعتمد عليه في فكره وسلوكه وجهاده، ولذلك فإن سماحته لم يقدم للعالم أفكاراً ارتجالية، بل قدّم افكاراً أصيلة تنبع من سيرة الرسول الأعظم (ص) وتاريخه المضيء، مستوحياً منها في كل شئونه العملية والفكرية والتربوية والثقافية.
وإذا حاولنا أن ندرس حياة الإمام الشيرازي وفكره وجهاده ونقارن بينها وبين تأثيرات تاريخ الرسول (ص) ومعطياته عليه لوجدنا أن سماحته قد استلهم حياته بشكل أساسي من هذا التاريخ وتعلّم من دروسه وفكّر حسب منهاجه، حتى انه ذاب في هذا التاريخ وعاش ملامحه وحاول بكل ما يملك من طاقات أن يعطي للاُمة حيوية جديدة من خلال التغذي بمفاهيم تاريخ الرسول (ص).
ولذلك فإننا نكتشف عمق تأثير الرسول (ص) في حياة الإمام الشيرازي عبر استطلاع سلوكه ودراسة أفكاره وتقييم انطباعاته. فقد اكتسب الإمام الشيرازي ما تحلّى به من السلم واللاعنف من مدرسة رسول الله (ص) التاريخية فأصبحت حياته سلاماً حتى مع أعدائه وحاسديه، فتراه قد نبذ العنف والقسوة، وهجر ما يعطي أعداء الإسلام مناهم وينجز لهم آمالهم، وحارب كل اشكال العنف التي تعطي نتائج معكوسة وتشوّه سمعة الإسلام.
ونجد في سلوك الإمام الشيرازي ما يدلنا على انه قد اتخذ رسول الله (ص) اُسوة وقدوة له في نهجه الأخلاقي، حيث اتسم بسعة الصدر والحلم والصفح والعفو عن الأعداء والكرم والعطاء والجهاد والتضحية ومداراة الناس وجمع الكلمة والمشورة في الاُمور، حتى أصبح مثالاً رائعاً للأخلاق الإسلامية في عصرنا الحديث.
ومن خلال الدراسة العميقة لتاريخ الرسول (ص) انبعثت الأفكار الحيوية والواعية لدى الإمام الشيرازي، إذ يعتقد سماحته أنه لا يمكن تغيير واقعنا نحو الأحسن مالم نطبق منهاج رسول الله (ص) في حياتنا العملية مثل الشورى، التي يجب أن نتخذها منهجاً أساسياً في كل مجالات الحياة، والحرية الإسلامية التي تعيد الى الإنسان إنسانيته وتنقذه من شقاء العبودية وتخلصه من حياة الغاب، والاُخوة الإسلامية الصادقة، والاُمة الإسلامية الواحدة، والاكتفاء الذاتي، الى الكثير من الافكار التي ذكرها الإمام الشيرازي في مكتبته الكبيرة اقتباساً من حياة الرسول (ص) والائمة المعصومين (عليهم السلام)، واستدلالاً بما وصلتنا من كلماتهم واحاديثهم العظيمة، وقد كتب الإمام الشيرازي كتابه القيم هذا: (ولأول مرة في تاريخ العالم) ليثبت للعالم ان الرسول (ص) قاد أول حركة عالمية اصلاحية شاملة ناضلت من أجل انقاذ البشرية وتحريرها من أغلال العبودية وحاولت جادّة لبناء انسانية نبيلة تفيض بالخير والحب، وتتّسم بالاتحاد والتآخي، وتجاهد من أجل رضا الله وبناء مجتمع بشري سعيد.

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.
Javascript DisablePlease Enable Javascript To See All Widget