علاء البغداديّ
في أوّلِ ظهورٍ إعلاميّ له بعد الاحتلال الأمريكيّ عام 2003، سأله مراسل قناة العربيّة (وائل عصام) عن موقفه من التّواجد العسكريّ لـ(قوّات التّحالف) على الأراضي العراقيّة، أجاب ذلك الزّعيم الشّاب، الغريب عن المشهد الإعلاميّ والقياديّ، أجابه بكلّ هدوءٍ وخجلٍ بأنّه سيقاوم هذا التّواجد غير المشروع، لأنّه (احتلال)، وأنّه سيقاومه ثقافيّاً وعسكريّاً.
كان هذا هو المُفتَتَح والإستهلال الذي بدأه مقتدى الصّدر لكتاب (المقاومة) في عراق ما بعد 2003، والذي تَمّ رفضه من قبل الجميع، لأنّه لا يتناسب وضرورة المرحلة الدّيمقراطيّة التي جاءت بها سُرف الدّبّابات التّحرّريّة.
كان ذلك الزّعيم الشّاب يُغرّد خارج السّرب السّياسيّ العراقيّ عموماً، والشّيعيّ على وجه الخصوص، فأيّةِ مقاومةٍ هذه التي يتحدّث عنها منذ الأيّام الأولى لسقوط الحكم البعثيّ، وهذا ما طَرَحَه عليه مجموعة من أعضاء (مجلس الحكم) في زيارتهم الأولى له، وكانوا يحاولون إقناعه بالتّخلّي عن فكرة (المقاومة) وقد عَرَضوا عليه رئاسة مجلسهم سيء الصّيت والفعل، بل وعَرَضوا عليه زعامة العراق السّياسيّة، لكنّه رَفَضَ كُلّ تلك العروض، لأنّه يؤمن تمام الإيمان من خلال الأسس العَقَديّة والثّوابت التي يرتكز عليها بأنّ الاحتلال هو شَرّ مطلق ولا يتأتّى منه إلّا الخراب، فضلاً عن رؤيته الإستشرافيّة للمآلات التي سينتهي إليها العراق في ظلّ الاحتلال العسكريّ الأجنبيّ.
ومنذ ذلك الحين، أصبح مقتدى الصّدر – وتَيّاره الفَتي - هو مصدر القلق الحقّيقيّ للمشروع الأمريكيّ في العراق، لإدراكهم حقيقة البُعد الوطنيّ في شخصيّة هذا الزّعيم وتَيّاره، وأحقّيّته في الانتماء العراقيّ، فراحوا يبحثون عن أيّةِ مُبرّرات للقضاء عليه أو على الأقلّ تقويض دوره المُعَطِّل لمشروعهم.
أصدرَ الحاكم المَدنيّ الأمريكيّ في العراق قراراً بغلق جريدة (الحوزة)، الصّحيفة الرّسميّة النّاطقة باسم (التّيّار الصّدريّ) بسبب مقالٍ إفتتاحيّ شاركت بكتابته وكنت مسؤولاً عن نشره كوني كنت نائباً لرئيس تحرير الجريدة، حَمَلَ المقال عنوان (السّفيه بريمر)، وبهذا سقط قناعاً آخراً من أقنعة الدّيمقراطيّة الأمريكيّة خصوصاً فيما يتعلّق بحُريّة الإعلام، ومن هنا كانت الشّرارة لإندلاع المواجهات العسكريّة العَلنيّة بين (التّيّار الصّدريّ) والقوّات الأجنبيّة بقيادة الجيش الأمريكيّ.
كانت المقاومة الصّدريّة تمتلك كافّة الإشتراطات والمُبرّرات الشّرعيّة والإنسانيّة للفِعلِ المُقاوِم، لا سيّما بعد أن أصدر مجلس الأمن الدّوليّ قراره الذي وصف التّواجد العسكريّ الأجنبيّ في العراق بأنّه (احتلال)، لكن حتّى هذا لم يمنع البعض من أن يكونوا مَلَكيين أكثر من الملك، واستمرّوا في ممارسة (الإنبطاح) السّياسيّ أمام سرير الإحتلال الأمريكيّ الدّيمقراطيّ!
استمرّت المقاومة الصّدريّة العسكريّة ضدّ الإحتلال الأمريكيّ بأبهى صورها، فكانت واضحة القيادة والخطاب والفعل والأثر والتّأثير، مع التّأكيد على مطالبات الصّدر المُتكرّرة والمُتكثّرة بضرورة الإنسحاب الأمريكيّ أو جدولته كمرحلةٍ أولى، أيّ أنّه كان يُمارس المقاومة في شَقّيها العسكريّ والسّياسيّ حتّى الإعلان عن (الاتّفاقيّة الأمنيّة) المُخزية والتي كان (التّيّار الصّدريّ) أوّل وأشدّ المُعارضين لها.
تَكَبّد الجيش الأمريكيّ الخسائر الفادحة في العُدّةِ والعديد جَرّاء المعارك مع (التّيّار الصّدريّ) بإعتراف كِبار قادته ومن خلال وسائل الإعلام الأمريكيّة والأوربيّة، حتّى قالوا بأنّ الأشباح خَرَجت لقتالنا من قبور النّجف، لعدم إدراكهم بأنّ شباب المقاومة الصّدريّة كانوا يتربّصون لهم ليلاً في سراديب المقبرة، فضلاً عن العَمليّات النّوعيّة الدّقيقة التي قامت بها بعض مجاميع المقاومة، والتي أسفرت عن اقتحام العديد من المقرّات العسكريّة الأمريكيّة وخطف الكثير من الجنرالات والجنود الأمريكان، وبعض تلك العَمليّات كانت بعلم زعيم (التّيّار الصّدريّ) وبإشرافه شَخصيّاً.
مما تجدر الإشارة إليه هنا، هو أنّ كُلّ الفصائل والمجاميع التي تطلق على نفسها اليوم لقب (المقاومة) كانت تقاتل الاحتلال تحت قيادة مقتدى الصّدر وتَيّاره، بل وأنّ نسبة 90% من فصائل (الحشد الشّعبيّ) خَرَجَت من رَحِم (التّيّار الصّدريّ).
لذا، فإنّ أيّ حديثٍ عن مهادنة مقتدى الصّدر وتَيّاره للأمريكان، ما هو إلّا محض سُخرية وأضحوكة، فهو أوّل من دَشّن مفهوم المقاوَمة وكان مصداقه الأوضح وشاخصه الأبرز، إلّا أنّ الإشكاليّة التي لا يَتمكّن البعض من فَكّ مغاليقها، هو عراقيّة الهويّة الصّدريّة ووطنيّتها، لأنّ العراق ومصالحه هي البوصلة التي يتوجّه صوبها مقتدى الصّدر، فهو يُقاوم عسكريّاً متى تَطلّبت مصلحة العراق وشعبه، ويُقاوم سياسيّاً وثقافيّاً وفق المصلحة ذاتها، وبعبارةٍ أخرى أنّ المقاومة هي الإستراتيجيّة الثّابتة التي يعتمدها الصّدر، لكنّه يختلف في ممارسة التّكتيك من مرحلةٍ لأخرى.
مَن يعترض على مطالبة مقتدى الصّدر بضرورة التّعاطي مع الملفّ الأمريكيّ سياسيّاً وبشكلٍ عُقلائيّ، تحت ذريعة أنّ الصّدر تَخلّى عن مقاومة الأمريكان، هو واهم وموهوم، لأنّ أمريكا لا تخشى من الصّواريخ (العوراء) التي لا تعرف الوصول إلى أهدافها، بل تخشى ممن يسعى لإخراجها وفق السّياقات السيّاسيّة المُعتَمَدة دوليّاً.
فقبل أن تحاولوا إرشاد الصّدر وتَيّاره إلى الصّواب، حاولوا إرشاد صواريخكم لصواب أهدافها..
إرسال تعليق