المحكمة الاتحادية العليا وعلاقات القوة في العراق


 يحيى الكبيسي

كتب الدستور العراقي بصفقة بين الفاعلين السياسيين الشيعة والكرد؛ فقد هيمن كلاهما على لجنة كتا


بة الدستور، وكان حضور الفاعل السياسي السني باهتا بسبب مقاطعته لانتخابات الجمعية الوطنية، والتي التزمت بكتابة الدستور العراقي وفقا لأحكام المادة 60 من قانون إدارة الدولة.

هذه الصفقة، التي رعتها أمريكا من أجل تمرير الدستور، حكمتها علاقات القوة شبه المتوازنة بين الطرفين في تلك اللحظة، لهذا استطاع كلاهما أن يضمنا الدستور رؤاه ومصالحه، وفي حال التقاطع، كان الطرفان يلجآن إلى تسويات يتفقان عليها، ومن أهم تلك التسويات موضوع النفط والغاز؛ فقد رفض الفاعل السياسي الكردي أن تكون هذه الفقرة ضمن الاختصاصات الحصرية للحكومة الاتحادية التي وردت في المادة 110 من الدستور، كما رفض الفاعل السياسي الشيعي أن تكون ضمن الاختصاصات المشتركة بين السلطات الاتحادية وسلطات الأقاليم (هنا إقليم كردستان بوصفه الإقليم الوحيد) التي وردت في المادة 114 من الدستور، لهذا كانت التسوية أن يعد النفط والغاز في منزلة بين المنزلتين، بذلك جاءت الفقرتان المتعلقتان بالنفط والغاز بين الاختصاصات الحصرية والاختصاصات المشتركة!

وقد صيغت هاتان الفقرتان صياغة إشكالية لغرض جعلها مرنة قابلة للتأويل، وفق مصالح كل طرف وتبعا للمتغيرات، بينها المتغير الذي قد يطال علاقات القوة؛ فالمادة 111 نصت على أن «النفط والغاز هو ملك كل الشعب العراقي في كل الأقاليم والمحافظات» والفقرة الأخيرة «في كل الأقاليم والمحافظات» لم تكن موجودة في مسودات الدستور الأولى، بل أضيفت مع سلة التعديلات التي جرت على المسودة وأُقرت من الجمعية الوطنية 2005، قبل ثلاثة أيام فقط من الاستفتاء العام عليه! فالجملة الأولى واضحة بأن النفط ملكية عامة للشعب العراقي كله ولا تحتاج إلى أي إضافة لتوضيحها، وكان الهدف من الإضافة كان هو فتح باب التأويل على مصراعيه، ليكون معنى العبارة في ذهن من وضعها هي: أن النفط والغاز ليس ملكية للشعب ككل، بل ملكية عامة للشعب في كل إقليم ومحافظة على حدة حصرا، ثم تتحدث المادة 112/ أولا عن قيام الحكومة الاتحادية وسلطات الأقاليم «مع» المحافظات المنتجة، وليس المحافظات كلها، بإدارة النفط والغاز «المستخرج من الحقول الحالية» حصرا، وليس كل ثروة النفط والغاز، وهو ما سيفتح لاحقا صراع التأويل عن معنى «الحقول الحالية» فهل المقصود بالحالية هي الحقول المنتجة (كما عرفها قانون النفط والغاز في الإقليم) أم الحقول المكتشفة المنتجة وغير المنتجة (كما في التعريف الاتحادي)؟ ليس هذا فحسب، بل سيفتح باب التأويل حول معنى «الحقول غير الحالية» التي لم يرد الإشارة إلى أحكامها! هل هي الحقول غير المنتجة فقط، أم الحقول غير المكتشفة أصلا؟ وبالعودة إلى مسودة قانون النفط والغاز التي اقترحتها الحكومة العراقية في العام 2007، سنجد أن القانون قفز على عبارة «الحقول الحالية» الدستورية، وتحدث عن المادة 2/أ حول تطبيق القانون على «العمليات النفطية في جميع مناطق جمهورية العراق»!

وتحدثت المادة 122/ ثانيا عن حق الحكومة الاتحادية وحكومات الأقاليم والمحافظات المنتجة «معا» في رسم السياسات الاستراتيجية الخاصة بتطوير هذا القطاع. إن مفردتي «مع» و «معا» مع وضع مادتي النفط والغاز في منزلة بين المنزلتين ،كان، منذ اللحظة الأولى، موضع صراع على «التأويل» الذي لن تحسمه في النهاية سوى علاقات القوة!

أما المادة 115 فقد نصت على أن «كل ما لم ينص عليه في الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية يكون من صلاحية الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم» ولم يقف الأمر عند حد الاختصاصات الحصرية، بل تجاوزها إلى الاختصاصات المشتركة التي ستؤول، في النهاية، إلى الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم، فالعلوية فيها ستكون لقوانينهما في حال الخلاف مع القوانين الاتحادية!

لم تكن هذه «الألغاز» الدستورية مجرد رغبات الفاعل السياسي الكردي، بل كانت تلاقي هوى عند فاعلين سياسيين آخرين من الكتل الشيعية الذين كانوا يتطلعون، حينها، إلى إقليم الوسط والجنوب، وبالتالي كان لا بد من «المواد الملغزة» في حال الحاجة إلى التأويل! في2009، وفي احتفالية كبيرة، قامت وزارة النفط في حكومة إقليم كردستان بضخ النفط من حقلي طقطق وطاوكي عبر أنبوب النفط العراقي الذي ينقل النفط من كركوك إلى ميناء جيهان التركي، يومها حضر رئيس جمهورية العراقي وزعيم حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، المرحوم جلال الطالباني هذا الاحتفال، وصرح بأن العقود النفطية التي أبرمتها حكومة الإقليم هي «عقود دستورية وقانونية» وأشار إلى أن هناك اتفاقا مع الحكومة العراقية ينص على أنه «إذا لم يتم في شهر مايو 2007 إصدار قانون النفط والغاز في البرلمان، فلحكومة إقليم كردستان الحق في توقيع عقود النفط والغاز مع الشركات وفق القانون والأصول» ولكنه أشار أيضا إلى أن وجود محاولات لطمس وإنكار هذا الاتفاق الذي تم إقراره في مجلس الوزراء بالإجماع!

خارج إطار التصريحات، لم تتحرك وزارة النفط في الحكومة الاتحادية بشكل جدي أمام هذه الاتفاقات! إلآّعام 2012 حين رفعت وزارة النفط دعوى لدى المحكمة الاتحادية تطالب بالبث في مسألة امتناع إقليم كردستان عن تسليم النفط الخام المنتج من الإقليم إلى الحكومة المركزية واستئثاره بإيرادات النفط المنتج، بالإضافة إلى قيامه بتصدير النفط الخام إلى خارج العراق دون موافقة الحكومة المركزية. ومطالبته بتسليم كامل النتاج النفطي المنتج في الإقليم إلى وزارة النفط الاتحادية.

لن يفهم أحد سر هذا التأخير في رفع الدعوى إلا إذا عرف طبيعة الصراع الذي احتدم في العام 2012 بين الإقليم والحكومة الاتحادية، والذي وصل ذروته حين حدث حراك ثلاثي (الحزب الديمقراطي والقائمة العراقية والتيار الصدري) لسحب الثقة عن رئيس مجلس الوزراء حينها! لم تبت المحكمة الاتحادية يومها في الدعوى، وبقي معلقة. لكن في عام 2014، تقدمت وزارة النفط الاتحادية بدعوى أخرى لدى المحكمة الاتحادية تطالب فيها بإصدار أمر ولائي/ مستعجل بمنع حكومة إقليم كردستان من تصدير النفط، يومها رفضت المحكمة الاتحادية إصدار هكذا قرار وقررت «إن إعطاء رأي أو قرار بشأن الطلب من شأنه أن يعطي إحساسا بالرأي المسبق في مسار الدعوى والحكم» ولم يصدر أي قرار في هذه المسألة على مدى سنوات!

بعد عشر سنوات كاملة، تذكرت المحكمة الاتحادية العليا الدعوى المقامة من وزارة النفط، وضمتها إلى دعوى مقامة في العام 2019، وأصدرت قرارا لا يفسر النصوص الدستورية، بل يشرع قواعد دستورية جديدة! ولا يمكن فهم هذا القرار، بطبيعة الحال، إلا في سياق تحولات علاقات القوة بين الإقليم والمركز (او بالأحرى بين من عقدوا صفقة الدستور) ما بين عامي 2005 و 2022) فهذا التغيير فرض ليس إعادة تأويل النصوص الدستورية وحسب، بل وحتى تحريفها، فثمة من يتوهم اليوم أن «الصفقة» التي أنتجت دستور 2005، لم تعد صالحة للاستمرار!


إرسال تعليق

[blogger]

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.
Javascript DisablePlease Enable Javascript To See All Widget