محمد صادق الصدر.. الفقيه الثائر على ظلم السلاطين


بشير خزعل

بعد مرور ستة عشر عاما على استشهاده ما زال الحديث عن السيد الشهيد محمد صادق الصدر (قدس) مفعما بالمآثر التي استطاع من خلالها أن يحظى بحب الناس من مختلف فئات المجتمع العراقي، ففي ذروة الجبروت والقوة لنظام قمعي، كان السيد الشهيد يؤسس لمشروعه الإسلامي الخاص ببناء المجتمع بعد أن توالت عليه الثقافات والأفكار الدخيلة التي روج لها النظام آنذاك.
اغتيال آثم

أصبح الصدر مصدر إلهام روحيا لأغلب أتباع المذهب الجعفري في خارج العراق وداخله، وعلى إثر ذلك ظهر للشهيد الكثير من الأعداء الذين أثار حفيظتهم بعد أن أرجع الدين إلى مكانته الروحية في قلوب الناس، وفي يوم الجمعة الرابع من ذي القعدة الموافق التاسع عشر من شباط 1999 وبينما كان الصدر برفقة ولديه مؤمل ومصطفى عائداً في سيارته إلى منزله في الحنانة تعرض لملاحقة من قبل سيارة مجهولة فاصطدمت سيارته بشجرة قريبة وترجل من السيارة شخصان وأطلقا النار على السيد الصدر ونجليه، وبعد أن نقل من قبل الأهالي الى المستشفى توفي هناك متأثراً بجراحه، في حين فارق ولداه الحياة على الفور، وفي أعقاب مقتل السيد الصدر شهدت مناطق جنوب العراق ومدينة الثورة (مدينة الصدر حاليا) اضطرابات ونزاعات عسكرية سميت بانتفاضة الصدر 1999 حيث قامت مجاميع مسلحة بالهجوم على قوات الأمن ومراكز الشرطة ومقرات حزب البعث في بغداد وبعض محافظات الجنوب.

قضية المدارس

تصدى الشهيد الصدر للمرجعية الدينية وسعى للحفاظ على الحوزة العلمية في النجف وقام بخطوات كبيرة في هذا المجال وفقاً لما تتطلبه الساحة الفكرية والحياة العصرية وقام بإرسال العلماء إلى جميع أنحاء العراق لممارسة مهامهم التبليغية وتلبية حاجات المجتمع وفق المذهب الشيعي وتعيين العلماء المتخصصين للقضاء وتسيير شؤون أبناء المجتمع وأقام صلاة الجمعة وأمها بنفسه في مسجد الكوفة في النجف، وعمم إقامتها بمدن العراق الأخرى رغم منعها في ذلك الوقت، ما ولد لدى النظام الحاكم في العراق الذي كان يرأسه صدام حسين خوفاً من خطر مباشر على مستقبله، لاسيما ان السيد الصدر قد شارك في الانتفاضة الشعبانية في العام 1991 كقائد لها لبضعة أيام لكن سرعان ما تم اعتقاله من قبل عناصر الأمن.

المراجع الإصلاحيون

السيد حارث العذاري أحد طلاب الحوزة العلمية في النجف الأشرف في زمن الشهيد الصدر وكان من جيل الشباب آنذاك، تحدث عن بعض تفاصيل حياة السيد الشهيد وما تتضمنه من خفايا لم يعرفها الكثيرون حتى من أتباعه، إذ يقول: "في زمن السيد
الشهيد كنا طلابا في مرحلة دراستنا الحوزوية الأولى وكنا نلتقي به في المكتب والحوزة للسؤال والحاجة، فالشهيد الصدر لم ينطلق من فراغ فهو امتداد لحركة تمتد عبر قرون أطلق عليها تسمية الحوزة الناطقة، وهناك سلسلة كبيرة من المراجع الناطقين، ففي سبعينيات القرن الماضي كان يصفهم السيد الصدر بالثوريين، أو عبَّر عنهم بالمراجع الإصلاحيين، فالمرجع الناطق يكون عمله وطريقة أدائه بشكل مختلف عن المرجع الذي اسماه بالمرجع الساكت".
وأضاف "ونحن كطلبة فضلا عن تقليدنا للسيد الصدر وجدنا أنه الراعي الأنسب لطلبة الحوزة من ناحية الرعاية العلمية والمالية والاجتماعية والمعنوية والتربوية وحتى السياسية، كنا نذهب الى مكتب السيد الصدر في بداية دراستنا وكنا نعد من جيل الشباب آنذاك، لأننا دخلنا الحوزة على إثر مرجعية الشهيد الصدر، وفي زمن مرجعية أبو القاسم الخوئي (قدس) كانت المدارس الدينية مغلقة، والغرف في تلك المدارس مختصرة على بعض الطلبة القدامى من شيبة النجف وبعض العلماء والمجتهدين ممن لديهم بيوت في المدينة ومع ذلك لديهم غرف يستراحون فيها أثناء الدرس، السيد الصدر قام بخطوة آنذاك كانت من الأسباب التي أدت الى ضعف علاقته بالحوزة العلمية بتقديري الشخصي، فقضية المدارس قضية خطيرة ومهمة وربما كانت مفترق طرق بين مرجعية الصدر داخل أروقة الحوزة الخاصة، إذ قال السيد الشهيد للحوزويين: "من غير المعقول ان ندع طلبة الحوزة من باقي المحافظات يسكنون في الفنادق والأمن يراقبهم.. لا بد أن نوفر لهم غرفا، وانتم علماء لديكم بيوت بالنجف ولديكم غرف في الحوزة من أجل أن تستريحوا فيها لعشر دقائق، فيحرم الطالب من السكن، ثم أصدر أمرا بفتح الغرف وإخراج الأثاث، بعض الفضلاء من طلبة ابو القاسم الخوئي لم يلتزموا بهذا الأمر، الأمر الذي أثار حفيظة الكثيرين على السيد الصدر في ذلك الوقت، فشعر طلاب الحوزة بأن مرجعية الصدر هي المناسبة لرفع الحيف عن الآخرين".

علمه ومؤلفاته

واضاف العذاري: "في ما يخص حياته كعالم دين، فالشهيد الصدر تتلمذ على يد أربعة مراجع كبار، وهم السيد محسن الحكيم والسيد الخميني ومحمد باقر الصدر وابو القاسم الخوئي وكان يقول إنه استفاد من اثنين بشكل حقيقي هم السيد الخوئي ومحمد باقر الصدر، فمدرسة الخوئي مدرسة فقهية ومدرسة باقر الصدر مدرسة أصولية عريقة، من هذه الأجواء تخرج الصدر، وامتاز ببعض الجوانب المهمة التي لم يسلط عليها الضوء، فقد عرف عنه ذلك الرجل الزاهد والمتقشف الذي يتناول في محاضراته وكتبه القضايا الروحية والفكرية، وعنده كتاب قديم لمناقشة حقوق الإنسان وكتاب آخر يمثل وجهة النظر الإسلامية والسياسية يتحدث فيه عن الطائفية في الإسلام، الكتاب الأكبر الذي نعتبره المنظار الأوسع هو كتاب "موسوعة الإمام المهدي" بأربعة أجزاء والذي يتحدث فيه السيد الشهيد عن الغيبة الصغرى والغيبة الكبرى وتاريخ يوم الظهور وكتاب اليوم الموعود، فالسيد الشهيد كان يقول في بعض المحافل العلمية الخاصة إن كتاب "اليوم الموعود" هو قدم تضاف على كتاب "فلسفتنا واقتصادنا" للسيد محمد باقر الصدر، وقد خاض فيه الصدر بأسلوب علمي استدلالي مناقشة النظرية الاشتراكية الشيوعية ومناقشة الرأسمالية وهو ليس عالم دين فقط، لأنه مطلع على الأديان والمذاهب والايديولوجيات العالمية ويستعرض الافكار ويناقشها ويحاول أن يثبت الرؤية الأنسب والأدق، وهذا يبين ان السيد الصدر كان متبحرا بالعلوم الاخرى ولم يقتصر علمه على أمور الدين فقط، وقد ألف كتاب (فقه الأخلاق) الذي بين فيه المعاني الروحية للصلاة، فالقرآن الكريم توجد به بعض المعاني لما وراء الألفاظ، وهناك جانب آخر مهم تطرق إليه الصدر في كتاب اسماه (فقه الفضاء) وهو التكليف الشرعي للصلاة والتعامل مع المخلوقات الأخرى ونوه السيد الشهيد بأن البعض قد يفسر هذا الكتاب على أنه جزء من الخيال العلمي ولكن قد يأتي يوم ويحتاج الناس الى مثل هذا المؤلف. وهذا الامر يعبر عن بعد نظر وعلى أن التشريع الإسلامي قادر على أن يجيب على الأسئلة قبل وقوعها. وهذه هي عظمة الشريعة الإسلامية التي تتسع مع تقدم الحياة.

صلاة الجمعة

وعن إقامة صلاة الجمعة التي انقطعت عن تاريخ الشيعة لقرون، بين السيد العذاري أن "السيد الشهيد هو الذي أحيا صلاة الجمعة في العراق وبعث الخطباء والمبلغين الى أغلب المدن العراقية، وكان يقول: "استمروا على صلاة الجمعة حتى لو مات الصدر"، فلا يجوز أن يكون موت الصدر سببا لخذلان الدين والمذهب، وبعد سقوط النظام أقيمت صلاة الجمعة وأقامها السيد مقتدى الصدر في مسجد الكوفة وبدأ يتبنى هذا المشروع بإرسال الخطباء والمبلغين للمحافظات، ولدينا قناعة بأن صلاة الجمعة ستستمر إن شاء الله".

فكر الإسلام

لم يكن السيد الصدر رافضا لفكرة الإسلام الديمقراطي لكن نظريته السياسية تختلف عن غيره من الفقهاء، فهو يرى أن تربية الأمة لتقبل النظام السياسي الإسلامي لا تنجح إلا بعد إقامة مجتمع إسلامي، أما الفقهاء الآخرون فيرون ان الحكم الإسلامي هو الذي يصنع المجتمع الإسلامي، وهو كان يرى أن الحكم الإسلامي
فيه مخاطرة وهذا لا يأتي إلا عن طريق الإمام المعصوم الإمام المهدي (عج) عند ظهوره، ولم ينطلق محمد الصدر بمحاربة نظام صدام بشكل مباشر،
بل حاول أن يبتعد عن الاحتكاك بالسلطة من أجل أن يخلق مجتمعا إسلاميا".
واوضح العذاري أن "الديمقراطية كفكرة هي جميلة وجيدة ولكن لها حدود ولا يمكن أن يكون لها تداخل ويتمدد الشعار الديمقراطي من خلالها على شعار التشريع أو تتمدد السلطة التشريعية على السلطة التنفيذية، الشيء الآخر ان النظام الموجود الآن هو ليس نظاما إسلاميا بل نظام علماني والقانون الموجود هو قانون وضعي، والمزعج في العراق هو التناقض، ففي كل دول العالم رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء هو رجل علماني يحكم بنظام علماني إن أخطأ يحاسب أو أحسن يثاب، وهذه طبيعة الحياة، في العراق، الشيء الغريب الذي يدعو للشك، ان المسيطرين على السلطة إسلاميون، ولكن النظام علماني، والناس في الشارع تقول: ماذا حصلنا من الإسلام؟ انا كمواطن عراقي أسأل نفس هذا السؤال، هناك مغالطة السوء بالإسلاميين، وهذا لا يعني ان الإسلام فاشل أو قبيح وحتى النظام العلماني لا ذنب له في هذه المسألة، لأن بعض القضايا فيها تلتقي مع الإسلام".
الصباح

إرسال تعليق

[blogger]

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.
Javascript DisablePlease Enable Javascript To See All Widget